ثم قال - تعالى - في بيان الحق في المعاملة : بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين العهد : ما تلتزم الوفاء به لغيرك ، فإذا اتفق اثنان على أن يقوم كل منهما للآخر بشيء مقابلة ومجازاة يقال : إنهما تعاهدا ، ويقال : عاهد فلان فلانا عهدا فيدخل فيه العقود المؤجلة والأمانات ، فمن ائتمنك على شيء أو أقرضك مالا إلى أجل أو باعك بثمن مؤجل وجب عليك الوفاء بالعهد وأداء حقه إليه في وقته من غير أن تلجئه إلى التقاضي والإلحاح في الطلب ، بذلك تقتضي الفطرة وتحتمه الشريعة ، وهذا مثال العهد مع الناس وهو المراد هنا أولا وبالذات للرد على أولئك اليهود الذين لم يجعلوا العهد مما يجب الوفاء به لذاته وإنما العبرة عندهم بالمعاهد ، فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له لأنه إسرائيلي ، ومن كان غير إسرائيلي فلا عهد له ولا حق يجب الوفاء به ، ويدخل في الإطلاق عهد الله - تعالى - وهو ما يلتزم المؤمن الوفاء له به من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله ، وعهد للناس العمل به ، وهو حجة على اليهود أيضا فإنهم ما كانوا يوفون بهذا العهد مع أنهم يقولون بوجوب الوفاء ، ولو أوفوا به لآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتبعوا النور الذي أنزل معه ، كما أوصاهم الله وعهد إليهم على لسان موسى عليه السلام .
ولفظ ( بلى ) جاء لإثبات ما نفوه في قولهم : ليس علينا في الأميين سبيل فهو يقول : بلى عليكم سبيل وأي سبيل ; إذ فرض عليكم الوفاء بالعهد والتقوى ، ثم ذكر جزاء أهل الوفاء [ ص: 281 ] والتقوى فقال : من أوفى بعهده الذي عاهد به الله أو الناس واتقى الإخلاف والغدر والاعتداء فإن الله يحبه فيعامله المحبوب بأن يجعله محل عنايته ورحمته في الدنيا والآخرة .
قال الأستاذ الإمام ما معناه : إن ورود الجواب بهذه العبارة أفادنا قاعدة عامة من قواعد الدين وهي أن الوفاء بالعهود واتقاء الإخلاف وسائر المعاصي والخطايا هو لا كونه من شعب كذا ، ومن هذه القاعدة يعلم خطأ الذي يقرب العبد من ربه ويجعله أهلا لمحبته اليهود في زعمهم أنه ليس عليهم في الأميين سبيل ، وفيه التعريض بأن أصحاب هذا الرأي ليسوا من أهل التقوى التي هي الركن الركين لكل دين قويم .