ثم ودار كرامته ، فقال : ( وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين البائعين أنفسهم وأموالهم لله تعالى بجنته التائبون ) أي هم التائبون الكاملون في توبتهم وهي الرجوع إلى الله تعالى عن كل ما يبعد عن مرضاته ، وتختلف باختلاف أحوال أهلها ، الذين يدخلون في الإسلام هي الرجوع عن الكفر الذي كانوا عليه من شرك وغيره كما تقدم في قوله تعالى : ( فتوبة الكفار فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) ( 9 : 11 ) من النفاق وتقدم ذكرها في هذه السورة أيضا ، وتوبة المنافق من المعصية ، ومنه توبة من تخلف عن غزوة وتوبة العاصي تبوك من المؤمنين ، وتقدم قريبا ذكر من تاب منهم ومن أرجى أمره ، وتوبة المقصر في شيء من البر وعمل الخير إنما تكون في التشمير فيه والاستزادة منه ، وتوبة من يغفل عن ربه إنما تكون في الإكثار من ذكره وشكره ، وسيأتي ذكر توبة الله تعالى على الجميع في الآيتين ( 117 و 118 ) .
في عامة أوقاتهم ، لا يتوجهون إلى غيره بدعاء ولا استعانة ، ولا يتقربون إلى سواه بعمل مما يقصد به القربة ومثوبة الآخرة . ( العابدون ) لله ربهم وحده مخلصين له الدين في جميع عباداتهم
( بالثناء عليه بلفظ الحمد وغيره من الذكر المشروع الدال على الرضاء منه تعالى . ومهما يصب الإنسان من مصائب الدنيا فإنه يبقى له من النعم فيها وفي الدين بل له من اللطف الإلهي في نفس المصائب ما يجب عليه أن يحمد الله ويشكره عليه ( وتقدم بيان الحمد والعبادة في تفسير سورة الفاتحة وغيرها ) . الحامدون ) لله ربهم في السراء والضراء
( السائحون ) في الأرض يجوبون الأقطار لغرض صحيح من علم أو عمل كالجهاد في سبيل الله ، وروي عن عطاء ، أو للهجرة حيث تشرع الهجرة ، وروي عن عبد الرحمن بن زيد ، قال : السائحون هم المهاجرون ، ليس في أمة محمد سياحة إلا الهجرة . أو لطلب العلم النافع للسائح في دينه أو دنياه أو النافع لقومه وأمته ، وروي عن عكرمة وخصه بعضهم بطلب الحديث ( لأنهم كانوا يسافرون من مصر إلى أخرى للرواية ) أو للنظر في خلق الله وأحوال الشعوب والأمم للاعتبار والاستبصار ومعرفة سنن الله تعالى وحكمه وآياته ، وهذا ما تدل عليه الآيات المتعددة في كما بيناه في الأصلين ( 13 و 14 من الأصول العلمية التي استنبطناها من سورة الأنعام ص 255 ج 8 ط الهيئة ) . الحث على السير في الأرض
وروي عن أن المراد بالسائحين الصائمون ، وقاله في تفسير ( سائحات ) من سورة التحريم ، وتعلق به مصنفو التفاسير لاستبعادهم مدح الله تعالى النساء بالسياحة في الأرض ، وإنما يحظر في الإسلام سفر المرأة منفردة دون زوجها أو أحد محارمها ، وأما إذا كانت تسيح مع الزوج والمحرم حيث يسيح لغرض صحيح من علم نافع أو عمل صالح [ ص: 43 ] أو طلب الصحة أو الرزق فلا إشكال في مدحها بالسياحة بل ينبغي اشتراك الرجال والنساء في جميع أعمال الحياة النافعة . عبد الله بن مسعود
وأزيد على ذلك السياحة والسفر لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها . وإذا صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يصحبون نساءهم في غزواتهم عند الإمكان ، وهن غير مكلفات بالقتال ، بل يساعدن عليه بتهيئة الطعام والشراب ، وتضميد الجراح وغير ذلك كما تقدم في تفسير ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) ( 9 : 71 ) فلأن يصحبنهم في سائر الأسفار أولى ، وفي سفر المرأة مع زوجها إحصان له ولها ، فهو مانع للمسلم من التطلع في السفر إلى غيرها .
وعلل تفسير السائحين بالصائمين بأن الصائم يترك اللذات كلها كالسائح للتعبد ، ومثله أو منه قول سفيان بن عيينة الأزهري : يسمى الصائم سائحا لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا يحمل زادا فكان ممسكا عن الأكل . ولهذا التعليل خص بعضهم إطلاق وصف السائحين على الصائمين بالذين يديمون الصيام ، وأخذ بعضهم بظاهر اللفظ ، فقال : يكفي في صحة الوصف صيام الفرض ، وكل ذلك ضعيف .
والصوفية يخصون السائحين الممدوحين بالذين يهيمون في الأرض لتربية إرادتهم ، وتهذيب أنفسهم باحتمال المشاق ، والبعد عن مظان السمعة والرياء ; لجمع القلب على الرب عز وجل بالإخلاص في عبادته ، والتكمل في منازل معرفته ، كالسياحين من الأمم قبلهم ، وقد كان إطلاق السياحة بهذا المعنى ذائعا من قبل الإسلام ، حتى قال صاحب القاموس : السياحة : الذهاب في الأرض للعبادة ; ومنه سمي المسيح إلخ ، واعترضوه فيه فإنما هو عرف ليس من أصل اللغة ، وتقدم معنى السياحة اللغوي في تفسير قوله تعالى : ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ( 9 : 2 ) وهو أول آية من هذه السورة ( ص 136 ج 10 ط الهيئة ) .
وقد حدث للمتصوفة بدع في السياحة كقصد مشاهد القبور المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين للتبرك بها ، والاستمداد من أرواح من دفنوا فيها ، وكثير منهم يكون له هوى في التنقل من بلد إلى آخر فيظل هائما في الأسفار ، وينقطع بذلك عن الأعمال التي تنفع الناس وعن الزواج ، ويرتكب بعضهم فيها كثيرا من المنكرات ، ويكون لهم طمع في استجداء الناس ، والسؤال حرام إلا لضرورة ، والفقهاء ينكرون عليهم سياحتهم هذه .
قال : ابن الجوزي منهي عنها . السياحة في الأرض لا لمقصود ولا إلى مكان معروف
وقد روينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ( لا رهبانية في الإسلام ولا تبتل ولا سياحة في الإسلام ) ) وقال : ما السياحة من الإسلام في شيء ، ولا من فعل النبيين [ ص: 44 ] والصالحين ; ولأن السفر يشتت القلب فلا ينبغي للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يقتدي به ا هـ . الإمام أحمد
وأقول : روى من حديث ابن جرير مرفوعا وموقوفا حديث ( أبي هريرة ) ولا يصح رفعه ، وروي عن السائحون هم الصائمون عائشة وابن عباس ومجاهد وغيرهم من أقوالهم ، ومن مرسل عن عمرو بن دينار عبيد بن عميرة ، وروى أبو داود من طريق القاسم أبي عبد الرحمن أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ائذن لي بالسياحة ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله عز وجل ) ) قال عن الحافظ المنذري : القاسم هذا تكلم فيه غير واحد انتهى . أقول : منهم كان يقول فيما يروى عنه من المناكير : إنها من قبله ، ويقول بعضهم : إنها ممن روى عنه من الضعفاء ، لا منه ، وقال الإمام أحمد : كان يروي عن الصحابة المعضلات . ابن حبان
وللإمام في كتاب السفر من الإحياء كلام نفيس في فوائد السياحة والاعتبار بآيات الله تعالى فيها لا يوجد في غيره مثله . الغزالي
( الراكعون الساجدون ) لله تعالى في صلواتهم . والصلاة تذكر تارة بلفظها ، وتارة ببعض أركانها كالقيام والركوع والسجود . وهذا الوصف يفيد التذكير بهذه الهيئة وتمثيلها للقارئ والسامع .
( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) تقدم معنى هذا الأمر والنهي ومكانته من صفات المؤمنين في تفسير الآية ( 71 ) من هذه السورة ( ج 10 ط الهيئة ) . وهذه الصفة وما بعدها من الصفات المتعلقة بجماعة المؤمنين فيما يجب على بعضهم لبعض ، وكل ما قبلهما من صفات الأفراد .
( والحافظون لحدود الله ) أي شرائعه وأحكامه التي حدد فيها ما يجب وما يحظر على المؤمنين من العمل بها ، وما يجب على أئمة المسلمين وأولي الأمر وأهل الحل والعقد منهم إقامتها وتنفيذها بالعمل في أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلوا بما يجب عليهم من الحفظ لها ( وبشر المؤمنين ) أي وبشر أيها الرسول المؤمنين الموصوفين بهذه البضع الصفات ، ولم يذكر ما يبشرهم به لتعظيم شأنه وشموله لخير الدنيا وسعادة الآخرة .
ومن مباحث اللغة أن المعدودات تسرد بغير عطف ، وإنما للإيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما في الغالب . وأما عطف ( عطف النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف والحافظون لحدود الله ) على جملة ما تقدم ، فقيل لأن التعداد قد تم بالوصف السابع من حيث إن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء عدد آخر معطوف عليه ، وإن هذه الواو تسمى واو الثمانية .
وأنكر هذه الواو النحاة المحققون ، وقيل لأنه إجمال لما تقدم من التفصيل قبله ، فلا يصح [ ص: 45 ] أن يجعل فردا من أفراده فيسرد معه . وأقوى منه عندي أنه وصف جامع للتكاليف عامة ، والمنهيات خاصة ، والسبعة المسرودة قبله من المأمورات ، ولا يحصل الكمال للمؤمن بها إلا مع اجتناب المنهيات ، وهو أول ما يلاحظ في حفظ حدود الله ، قال تعالى : ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) ( 2 : 187 ) ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) ( 2 : 229 ) ( وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) ( 65 : 1 ) وعلى هذا يكون معنى نظم الآية : أن المؤمنين الكاملين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى هم المتصفون بالصفات السبع ، والحافظون مع ذلك لجميع حدود الله في كل أمر ونهي ، ويعبر عن هذا في عرف هذا العصر بقولهم : ( ( المثل الأعلى ) ) ويطلقونه على الأفراد النابغين في بعض الفضائل العامة ، وعلى الجماعات والأمم الراقية ، ويكفي أن يقال فيه ( ( المثل ) ) في كذا . كما قال تعالى : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا ) ( 43 : 57 ) وقال : ( وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ) ( 43 : 59 ) أو يقال : مثل عال ، أو مثل شريف . وأما الأعلى فهو الله عز وجل كما قال عن نفسه : ( ولله المثل الأعلى ) ( 16 : 60 ) وقال : ( وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) ( 30 : 27 ) .
وجملة القول فيهم أنهم الحافظون لجميع حدود الله تعالى . وخصت تلك الخلال السبع بالذكر لأنها هي التي تمثل في نفس القارئ أكمل ما يكون المؤمن به محافظا على حدود الله تعالى .