خلاصة القول في : أشراط الساعة
وجملة القول في أحاديث الفتن ، وأشراط الساعة ، وأماراتها وسبب الاختلاف والتعارض فيما يختصر في المسائل الآتية : ( 1 ) أن كما يأتي في الآية التالية ، بل هو معلوم من الدين بالضرورة ، وإنما أعلمه الله تعالى ببعض الغيوب بما أنزله عليه في كتابه وهو قسمان : صريح كأخبار الملائكة والساعة والجنة والنار ، ومستنبط من بيان سنن الله تعالى المنصوصة فيه كقوله تعالى : النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم الغيب واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ( 8 : 25 ) وقوله : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( 17 : 16 ) فكان يفهم منها - صلى الله عليه وسلم - ما لا يفهم غيره من الصحابة فمن دونهم علما وفهما ، كما روي عن الزبير - رضي الله عنه - من عدة طرق في آية : واتقوا فتنة أنهم قرؤوها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكونوا يعلمون أنها تقع منهم حيث وقعت في فتنة قتل عثمان وفي يوم الجمل ، والروايات عن الزبير أوردها الحافظ في أول شرح كتاب الفتن من . البخاري
( 2 ) إن الله تعالى أعلمه ببعض ما يقع في المستقبل بغير القرآن من الوحي ، كسؤاله لربه ألا يجعل بأس أمته بينها ، فلم يعطه ذلك وأعلمه أن سنته في خلقه لا تتبدل ، أي وأن هذا منها ، راجع تفسيرنا لقوله تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ( 6 : 65 ) إلخ . ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن ذلك من سنته تعالى قبل إعلامه له .
( 3 ) أنه كان يتمثل له - صلى الله عليه وسلم - بعض أمور المستقبل كأنه يراه ، كما تمثلت له الجنة والنار في عرض الحائط ، وكما تمثل له في أثناء حفر الخندق ما يفتح الله لأصحابه من الممالك ، وكما تمثلت له الفتن وهو مشرف على أطم من آطام المدينة فقال كما في الصحيحين : " " وظهر هذا في فتنة قتل هل ترون ما أرى ؟ قالوا : لا ، قال : فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقوع القطر عثمان - رضي الله عنه - ومثله حديث الفتن من قبل المشرق ، وكشفه هذا حق ، وهو ما يسميه أهل الكتاب : نبوءات ، وقد ظهر منه شيء كثير كالشمس .
( 4 ) أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخبر أصحابه بكل ما يطلعه الله عليه من ذلك ، بل بما كان يرى المصلحة في إخبارهم به موعظة وتحذيرا ، وكان يخص بعض أصحابه ببعضها كما روي في مناقب حذيفة - رضي الله عنه - وما كان كل من سمع منه شيئا منها يفهم مراده كله ، وإذا كانوا لم يفهموا تأويل بعض آيات القرآن في سنن الله العامة حق الفهم التفصيلي كما تقدم آنفا [ ص: 422 ] عن الزبير - رضي الله عنه - ، وإذا كان منهم من لم يفهم بعض آيات الأحكام الظاهرة كقوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ( 2 : 187 ) فلأن يخفى عليهم تأويل ما خص به بعض الأفراد ، وهو مما لم يؤمر بتبليغه للناس كافة - ; لأنه ليس من أصول الدين ولا من فروعه - أولى . وخفاء ذلك على من بعدهم أولى ، إلا من يقع تأويله في عهدهم كوصفه - صلى الله عليه وسلم - النساء المتهتكات في هذا العصر بالكاسيات العاريات إلخ .
( 5 ) لا شك في أن أكثر الأحاديث قد روي بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه العلماء ، ويدل عليه اختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها ، وما دخل على بعض الأحاديث من المدرجات ، وهي ما يدرج في اللفظ المرفوع من كلام الرواة . فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه ، وربما وقع في فهمه الخطأ; لأن هذه أمور غيبية ، وربما فسر بعض ما فهمه بألفاظ يزيدها ، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلعه الله تعالى على كل ما أطلعه عليه من هذه المغيبات بالتفصيل ، وكان يجتهد في بعضها ويقدر ويأخذ بالقرآن كما قال النووي في تجويزه - صلى الله عليه وسلم - أن يكون وابن الجوزي ابن صياد اليهودي المعاصر له هو الدجال المنتظر ، وكذا تجويزه أن يظهر في زمنه وهو حي ، فهل من الغرابة أن يقع الخلط والتعارض فيما روي عنه بالمعنى بقدر فهم الرواة .
( 6 ) أن العابثين بالإسلام ومحاولي إفساد المسلمين وإزالة ملكهم من زنادقة اليهود والفرس وغيرهم من أهل الابتداع وأهل العصبيات العلوية والأموية والعباسية قد وضعوا أحاديث كثيرة افتروها ، وزادوا في بعض الآثار المروية دسائس دسوها ، وراج كثير منها بإظهار رواتها للصلاح والتقوى ، ولم يعرف بعض الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله من واضعيها ، ولقد كان الأستاذ الإمام يقول : إن، ولم يكن يثق إلا بأقل القليل مما روي في الصحاح من أحاديث الفتن . الإسلام الصحيح هو ما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الفتن
( 7 ) إن بعض الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم ، وما كل مسلم مؤمن صادق ، وما كانوا يفرقون في الأداء بين ما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من غيره وما بلغهم عنهم بمثل : سمعت وحدثني وأخبرني ، ومثل : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ، أو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما فعل المحدثون من بعد عند وضع مصطلح الحديث ، وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كان يروي بعضهم عن بعض ، وعن التابعين حتى عن وأمثاله ، والقاعدة عند أهل السنة أن كعب الأحبار ، وهي قاعدة أغلبية لا مطردة فقد كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - منافقون قال تعالى فيهم : جميع الصحابة عدول فلا يخل جهل اسم راو منهم بصحة السند وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ( 9 : 101 ) مردوا عليه : أحكموه وصقلوه أو صقلوا فيه حتى لم يعد يظهر في سيماهم [ ص: 423 ] وفحوى كلامهم ، كالذين قال الله فيهم منهم : ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ( 47 : 30 ) .
ولكن البلية في الرواية عن مثل ، وممن روى عنه كعب الأحبار أبو هريرة ، ومعظم التفسير المأثور مأخوذ عنه وعن تلاميذه ، ومنهم المدلسون وابن عباس كقتادة ، وكذا غيره من كبار المفسرين . كابن جريج
فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية ، أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق ، أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية ، أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية ، فهو مظنة لما ذكرنا في هذه التنبيهات ، وسبق لنا بيان أكثرها في الكلام على حديث طلوع الشمس من مغربها في تفسير ( 6 : 158 ) من أواخر سورة الأنعام ص 185 وما بعدها ج 8 ط الهيئة ، فمن صدق رواية مما ذكر ، ولم يجد فيها إشكالا فالأصل فيها الصدق ، ومن ارتاب في كل شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالا في متونها ، فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية لاحتمال كونها من دسائس الإسرائيليات ، أو خطأ الرواية بالمعنى ، أو غير ذلك مما أشرنا إليه ، وإذا لم يكن شيء منها ثابتا بالتواتر القطعي ، فلا يصح أن يجعل شبهة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - المعلوم بالقطع ، ولا على غير ذلك من القطعيات ، ولعل الله تعالى يبارك لنا في العمر ، ويوفقنا لصرف معظمه في خدمة الكتاب والسنة ، فنضع لأحاديث الفتن وآيات الساعة مصنفا خاصا بها ، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وهو على كل شيء قدير .