عود إلى تفسير الآية :
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر أنهم تجاوزوه بعنايته سبحانه ، وتأييده إياهم بفلق البحر ، وتيسير الأمر ، حتى كأنه كان معهم بذاته فجاوزه مصاحبا لهم ، أو المعنى : أننا أيدناهم ببعض ملائكتنا ، فجاوز بهم البحر بأمرنا ، فمن المعهود في اللغة [ ص: 94 ] أن ينسب إلى الملوك ، ورؤساء القواد ما ينفذه بعض أتباعهم بأمرهم ، وما يقع بجاههم وقوة سلطانهم ، ويجوز الجمع بين المعنيين . ففرق البحر بهم كان بعناية الله وقدرته . وفي آخر الفصل الثالث عشر من سفر الخروج ذكر خبر ارتحال معنى النظم الكريم بني إسرائيل وقال : " ( 20 ) وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود من غمام ؛ ليهديهم الطريق ، وليلا في عمود من نار ؛ ليضيء لهم ليسيروا نهارا وليلا ( 21 ) لم يبرح عمود الغمام نهارا أو عمود النار ليلا من أمام الشعب " ثم جاء في الفصل الرابع عشر منه بعد ذكر اتباع فرعون ومن معه بني إسرائيل ( 19 ) فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر بني إسرائيل فصار وراءهم وانتقل عمود الغمام من أمامهم فوقف ( 20 ) وراءهم ودخل بين عسكر المصريين وعسكر إسرائيل ؛ فكان من هنا غماما مظلما ، وكان من هناك ينير الليل فلم يقترب أحد من الفريقين طول الليل " .
هذا بعض ما جاء في التوراة مما يصح أن يكون تفسيرا لقوله تعالى في القرآن : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر بالباء هنا للمصاحبة كقولك : سافرت به وجئت به ، وإسناد المسير في عمود الغمام إلى الرب مجازي كقوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ( 2 : 210 ) ( فأتوا ) عقب تجاوزهم إياه ، ودخولهم في بلاد العرب من البر الأسيوي على قوم يعكفون على أصنام لهم يعبدونها ، فماذا كان من شأنهم إذ رأوهم يعبدون غير الله تعالى كالمصريين الذين أنقذهم الله تعالى منهم ، وأراهم آياته على وحدانيته فيهم ؟ هل استهجنوا شركهم وأنكروه كما هو الواجب عليهم ؟ والمعقول ممن رأى ما رأوا من سوء مصير المشركين ، وحسن عاقبة الموحدين ؟ الجواب : أنهم لم ينكروه بألسنتهم ، ولا بقلوبهم ، بل قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حنينا منهم إلى ما ألفوا في مصر من عبادة آلهة المصريين وتماثيلها وأنصابها وقبورها ، فعلم بهذا الطلب أنهم لم يكونوا فهموا التوحيد الذي جاء به موسى كما فهمه من آمن من سحرة المصريين ؛ لأن السحرة كانوا من العلماء فأمكنهم التمييز بين آيات الله تعالى التي لا يقدر عليها غيره ، وبين السحر الذي هو من صناعات البشر وعلومهم ، وأما هؤلاء الإسرائيليون فكانوا من العامة الجاهلين الذين بلد الذل أفهامهم ، وإنما اتبعوا موسى لإنقاذه إياهم من ظلم فرعون وتعبيده لهم ، لا لفهمهم بالآيات الدالة عليه ؛ ولذلك قيل إنهم بعض القوم لا جميعهم ، فالتوحيد المحض الخالص من شوائب الشرك والوثنية هو غاية ما يرتقي إليه عرفان البشر ، وهو المراد من قوله تعالى : حقيقة التوحيد وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( 51 : 56 ) على القول بأن " اللام " للغاية ، وهو لا يقتضي حصوله لكل فرد منهم ، ولو عقل جميع بني إسرائيل كنه التوحيد لما وقع من تبرمهم بالتكاليف ، وتمردهم على موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قصه الله تعالى علينا في كتابه ، وفي التوراة التي لديهم من الزيادة عليه والتفصيل له ما هو من [ ص: 95 ] مواطن العجب ، وقد ابتلاهم الله تعالى ورباهم بالحسنات والسيئات ، وحرم الأرض المقدسة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، حتى انقرض ذلك الجيل الذي نشأ في حجر الوثنية ، وشب أو اكتهل أو شاخ ، في ذل العبودية الفرعونية ، وقد رأينا نموذجا لذلك في طوائف من أمتنا ولدوا في مهد الظلم ، وشبوا في حجر النفاق والفسق ، فسنحت لأعلمهم بشئون الاجتماع والعمران فرص متعددة ، كان يرجى أن يحرروا فيها أنفسهم من رقها السياسي ويستقلوا بأمرهم فأضاعوها واحدة بعد أخرى ، وكان هذا من عبر التاريخ التي تثبت أن فلاح الأمم بأخلاقها وعقائدها ، وأن العلم الناقص شر من الجهل المطلق ، وأن العلم الصحيح في الرجل أو الشعب الفاسد الأخلاق كالسيف في يد المجنون ربما جنى به على صديقه أو على نفسه ، وربما نصر به عدوه .
ولم يبين لنا كتاب الله تعالى ولا رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا من أمر القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل عقب خروجهم من مصر إلى أرض العرب ، والظاهر أنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر ، روي عن قتادة أنهم من عرب لخم ، وعن : أبي عمران الجوني لخم وجذام ، وعن أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من نحاس ، فلما كان عجل ابن جريج السامري شبه لهم أنه من تلك البقر فذاك كان أول شأن العجل ؛ لتكون لله عليهم حجة فينتقم منهم بعد ذلك ( أقول ) : ولم يكن يعلم أن قدماء المصريين كانوا يعبدون عجلا اسمه ( أبيس ) ، وكان ابن جريج بنو إسرائيل يعبدونه معهم كغيره من معبوداتهم ، ويرون تماثيله منصوبة في معابدهم ، وأن السامري لم يصنع لهم العجل بعد ذلك إلا لما كان من إلفهم لعبادته ، وتأثر أعصابهم بما ورثوا من مظاهر روعته ؛ ولذلك قال تعالى فيهم : وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ( 2 : 93 ) والمراد عجل السامري ، وقد علل إشرابهم إياه في قلوبهم بما كان من كفرهم السابق ؛ أي : بالوراثة المتغلغلة في النفس بطول الزمان ، وتعاقب الأجيال ، فذلك الذي يطول تأثيره في الأعقاب والأنسال . ألم تر إلى ما استحدثه بعض المبتدعة في الإسلام ، وقلدهم فيه بعض الملوك من المنسوبين إلى السنة : من ، واتخاذها مساجد يصلى إليها أو لديها ، وإيقاد السرج والشموع عليها ، أنه قد جعل لها مكانة دينية كبيرة في قلوب عامة المسلمين حتى صارت عندهم من شعائر الدين ، بحيث يعدون من روى لهم الأحاديث الصحيحة في لعن الله ورسوله لمن يفعل ذلك مبتدعا فيه أو مارقا منه ، وينبزونه في بعض البلاد بلقب " وهابي " إذ كانت طائفة من الحنابلة في بلاد العرب سميت تشييد القبور ، وتزيينها بالعمائم والستور ، وبناء القباب فوقها قد عمدوا إلى إزالة هذه المنكرات بأيديهم ، لما لم يؤثر في إزالتها إنكار علماء السنة المصلحين لها بألسنتهم وأقلامهم ، عملا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوهابية يعني الإنكار بالقلب وحده ، ولو مع العجز عما فوقه ، والحديث رواه من رأى منكم منكرا فليغيره [ ص: 96 ] بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن ، إذا علمنا هذا الشأن من شئون الضعف البشري فلا نعجب أن روي عن بعض حديثي العهد من الصحابة بالإسلام ، مثل ما طلب أبي سعيد الخدري بنو إسرائيل من موسى عليه السلام ، بما كان من تأثير مظاهر الوثنية في قلوبهم . روى أحمد ، وأكثر مصنفي التفسير المأثور عن والنسائي قال : " أبي واقد الليثي بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة لتركبون سنن من قبلكم " وروى نحوه خرجنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت : يا رسول الله ، اجعل لنا هذه ذات أنواط ، كما للكفار ذات أنواط فقال : الله أكبر ، هذا كما قالت ، ابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن والطبراني كثير بن عبد الله بن عوف ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا ، وذكر أن المكان الذي طلبوا فيه ذلك بين حنين والطائف ، والعبرة في هذا أن للمسلمين الآن ذوات أنواط في بلاد كثيرة كشجرة " الست المندرة " وشجرة الحنفي بمصر ، ونحو من ذلك ما اتخذوه من القبور والأشجار والأحجار والآبار يعكفون عليها ، ويطوفون حولها ، ويقبلونها ويتمرغون بأعتابها ، ويتمسحون بها خاضعين ضارعين ، خاشعين داعين راجين شفاء الأدواء ، والانتقام من الأعداء ، والغنى والثراء ، وحبل العقيم ، ورد الضالة ، وغير ذلك من النفع وكشف الضر ، خلاف لنصوص كتاب الله عز وجل ، ولكنهم لا يعلمون أنها تسمى في اللغة العربية آلهة ، وأن جل ما يأتونه عندها يسمى عبادة ، وأنه شرك جلي لا يغفر ، ولا فرق بينه وبين شرك عرب الجاهلية وأمثالهم إلا الاختلاف في التسمية ، فأولئك كانوا يسمون الأشياء بأسمائها ؛ لأنهم أهل اللغة ، وهؤلاء تحاموا إطلاق لفظ الإله والمعبود والعبادة في هذا المقام ، واستباحوا غيرها من الألفاظ كالأولياء والشفعاء والوسيلة والتوسل ، وهي مشتركة أيضا ، ولكنها استعملت في الإسلام بغير المعاني التي كانت تستعمل بها في الجاهلية ، كأن الله تعبد الناس بإطلاق الألفاظ دون حقائق المعاني ، وحقيقة معنى العبادة ، وفي اللغة العربية ، وكذا في غيرها من اللغات : يشمل كل قول أو عمل يوجه إلى معظم يرجى نفعه أو يخشى ضره وحده - وهذا توحيد له - أو يرجى ويخاف بالتأثير عند الله تعالى - وهذا هو الشرك - بشرط أن يكون هذا الرجاء فيه أو الخوف منه لأمر غيبي خارج عن الأمور الكسبية ، والأسباب الدنيوية ، وقد سبق شرح هذا آنفا وقبله مرارا ، ويظن أهل العلم بكتب الفقه والكلام الذين لم يطلعوا على ملل الوثنيين أنهم يعبدون الأصنام وغيرها من المخلوقات التي يتبركون بها لذاتها ، وأنهم يعتقدون أنها تضر وتنفع بقدرتها وإرادتها ، والصحيح أنهم [ ص: 97 ] يتوسلون بها إلى الخالق كما حكى الله تعالى عن مشركي قريش وغيرهم ، وقد سمعت هذا من بعض علمائهم في الهند .
ماذا كان جواب موسى عليه السلام : قال إنكم قوم تجهلون وصفهم بالجهل المطلق غير متعلق بشيء ، وهو على طريقتنا وطريقة ، ابن جرير والخصاف : يشمل كل ما يصلح له من الجهل الذي هو فقد العلم ، والجهل الذي هو سفه النفس وطيش العقل ، وأهمه المناسب للمقام جهل التوحيد ، وما يجب من إفراد الرب تعالى بالعبادة من غير واسطة ، ولا التقيد بمظهر من المظاهر يتوجه إليه معه ، ولا سيما مظهر الأصنام والتماثيل لبعض المخلوقات التي اغتر الجاهلون من قبل بنفعها أو الخوف من ضررها ، فالأول كالكواكب والنيل والعجل أبيس ، والثاني كالثعبان ، ثم جهل ما كرم الله تعالى به البشر فجعلهم أهلا لمعرفته ودعائه ومناجاته كفاحا بغير واسطة يقربهم إليه ؛ فإنه أقرب إليهم من حبل الوريد ، وهو الأحد الصمد الذي يتوجه إليه ، ويقصد وحده ، ولذلك قال إماما الموحدين ، إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والتسليم : إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( 6 : 79 ) وأسلمت وجهي لله ومن اتبعن ( 3 : 20 ) .
وهذا النوع من الجهل هو الذي قال تعالى فيه : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ( 2 : 130 ) وإسناد الجهل إلى القوم أبلغ من إسناده إلى ضمير المخاطبين ؛ لأنه حكم على جماعتهم بما هو كالمتحقق المعروف من حالهم ، الذي هو علة لمقالهم ، يدخل فيه الذين سألوه ذلك منهم دخولا أوليا .