ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون خاف ملأ فرعون عاقبة تركه لموسى حرا مطلقا في مصر ، فكلموه في ذلك ، وقد أخبرنا الله تعالى بما قالوه له ، وما أجابهم به ، وما كان من تأثير جوابه في موسى وقومه من نصحه لهم ، وما دار بين موسى وبينهم في ذلك فقال :
وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ؟ أي : قالوا له : أتترك موسى وقومه أحرارا آمنين لتكون عاقبتهم أن يفسدوا قومك عليك في أرض مصر بإدخالهم في دينهم ، أو جعلهم تحت سلطتهم ورياستهم ، ويتركك مع آلهتك كالشيء اللقا ، فيظهر للمصريين عجزك وعجزها ، وقد رأيت ما كان من أمر إيمان السحرة - إذ الظاهر من السياق أن هذا القول كان بعد قصة السحرة - وسيأتي ما فيه ، وجمهور المفسرين على أن المراد بتركه وآلهته : عدم عبادته وعبادتها ، وقرأ : ( وإلاهتك ) أي : عبادتك . ومن المعلوم من التاريخ المستمد من العاديات المستخرجة من أرض ابن عباس مصر أنه كان [ ص: 70 ] للمصريين آلهة كثيرة منها الشمس ، واسمها في لغتهم ( رع ) وهو متضمن في لقب فرعون فهو عندهم سليل الشمس وابنها ، وسننقل بعد جوابه لهم أثرا يدل على ذلك ، ويذكر فيه بعض هذه الآلهة .
قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم أي : قال مجيبا للملأ : سنقتل أبناء قومه تقتيلا ما تناسلوا - فتعبيره بالتقتيل يدل على التكثير والتدريج - ونستبقي نساءهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ولادته حتى ينقرضوا وإنا فوقهم قاهرون وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان ، قاهرون لهم كما كنا من قبل ، فلا يستطيعون إفسادا في أرضنا ، ولا خروجا من حظيرة تعبيدنا ، وفي سورة المؤمن : وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ( 40 : 26 ) وهو يدل على أنه كان لديه من يدافع عن موسى ممن آمن به سرا ، وممن كان يحبه ، وإن لم يؤمن به فقد قال تعالى : وألقيت عليك محبة مني ( 20 : 39 ) وفيه تصريح بما كان له في أنفس المصريين من المحبة والاحترام . وقد حكى الله تعالى لنا دفاع واحد ممن آمن به فقال : وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ( 40 : 28 ) .
والمرجح عند المتأخرين من المؤرخين الواقفين على العاديات المصرية أن فرعون موسى هو الملك ( منفتاح ) وكان يلقب بسليل الإله ( رع ) وقد جاء في آخر الأثر المصري الوحيد الذي ذكر فيه بنو إسرائيل ( وهو المعروف برقم 34025 المحفوظ في متحف مصر ) أن مصر هي السليلة الوحيدة للمعبود ( رع ) منذ وجود الآلهة وأن " منفتاح " سليلة أيضا ، وهو الجالس على سدة المعبود " شو " وأن الإله " رع " التفت إلى مصر فولد " منفتاح " ملك مصر ، وشيء له أن يكون مناضلا عنها فتخنع له الولاة ، ولا يرفع أحد من البدو رأسه ، فخضع له القيروانيون والحيثيون والكنعانيون وعسقلان وجزال وينعمام .
وفيه : وانفك الإسرائيليون فلا بزر لهم ، وأصبحت فلسطين خلية لمصر والأراضي كلها مضمومة في حفظه ، وكل اسم وعفه " أضعفه وأذله " الصيدن لقب ( منفتاح ) سليل الشمس معطى المعيشة كل نهار مثل الشمس ا هـ ، وما ذكر لا ينافي ادعاءه الانفراد بالألوهية والربوبية العليا بعد . وقوله : فلا بزر لهم ، هو بمعنى قولنا : انقطع دابرهم ، يستعمل في الحقيقة ، وفي المجاز من باب المبالغة أو بالنظر إلى المآل .
[ ص: 71 ] ومن البديهي أن يخاف بنو إسرائيل هذا الوعيد ، وأن يطمئنهم موسى عليه السلام ، وهو ما بينه تعالى بقوله : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين أي : اطلبوا معونة الله تعالى ، وتأييده لكم على ما سمعتم من الوعيد واصبروا ، ولا تجزعوا ، فإن سألتم لماذا وإلى متى ؟ أقل لكم : إن الأرض - جنسها ، أو الأرض التي وعدكم ربكم إياها ، وهي فلسطين - لله تعالى الذي بيده ملكوت كل شيء يورثها من يشاء من عباده لا لفرعون ، فهي بحسب سنته تعالى دول ، والعاقبة الحسنة التي ينتهي إليها التنازع بين الأمم للمتقين ، أي : الذين يتقون الله بمراعاة سننه في كالاتحاد ، وجمع الكلمة ، والاعتصام بالحق ، وإقامة العدل ، والصبر على المكاره ، والاستعانة بالله ، ولا سيما عند الشدائد ، ونحو ذلك مما هدى إليه وحيه ، وأيدته التجارب ، ومراده عليه السلام أن العاقبة ستكون لكم بإرث الأرض ، ولكن بشرط أن تكونوا من المتقين له تعالى بإقامة شرعه ، والسير على سنته في نظام خلقه ، وليس الأمر كما تتوهمون ويتوهم أسباب إرث الأرض فرعون وقومه من بقاء القوي على قوته ، والضعيف على ضعفه ، أو أن الآلهة الباطلة ضمنت لفرعون بقاء ملكه ، على عظمته وجبروته وظلمه .
ماذا كان من موسى عليه السلام لقومه ؟ وهل فهموها وقدروها قدرها ؟ وبم أجابوه ؟ تأثير وصية قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا يعنون أنهم لم يستفيدوا من إرساله لإنقاذهم من ظلم فرعون شيئا ، فهو يؤذيهم ويظلمهم بعد إرساله كما كان يؤذيهم من قبله أو أشد ، وهذا الإيذاء مبين في الفصل الخامس من سفر الخروج من التوراة ، ففيه أن موسى وهارون لما طلبا من فرعون إطلاق بني إسرائيل لكي يعبدوا ربهم له في البرية ويذبحوا له ، قال لهما : لماذا تعطلان الشعب عن أعماله ؟ وأمر فرعون في ذلك اليوم مسخري الشعب ومدبريه أن يمتنعوا من إعطائه التبن الذي كانوا يعطونه إياه ليعمل به اللبن ( الطوب الني ) الذي كان مفروضا عليهم كل يوم ، وأن يكلفوه جمع التبن من البلاد ، ولا ينقصوا من عدد اللبن المفروض عليهم شيئا ، فتفرق الشعب في جميع أرض مصر ؛ ليجمعوا جذامه عوض التبن ، فعجزوا عن تمام المقدار المفروض عليهم من اللبن ، والمسخرون يلحون عليهم : أكملوا فريضة كل يوم كما كانت عندما كنتم تعطون التبن ، فجاء مدبرو بني إسرائيل الذين ولاهم عليهم المسخرون لهم من قبل فرعون ، واستغاثوا فرعون نفسه قائلين : لماذا تصنع ( 15 ) بعبيدك هكذا ؟ ( 16 ) إنه لا يعطى لعبيدك تبن ، وهم يقولون لنا : اعملوا لبنا ، وها أن عبيدك يضربون وشعبك يعاملون كمذنبين ( 17 ) قال : إنما أنتم مترفهون ، ولذلك تقولون نمضي ونذبح للرب ( 18 ) والآن فامضوا اعملوا ، وتبن لا يعطى لكم ، ومقدار اللبن تقدمونه ( 19 ) فرأى مدبرو بني إسرائيل نفوسهم في شقاء .
[ ص: 72 ] إذ قيل : لا تنقصوا من لبنكم شيئا بل فريضة كل يوم في يومها ( 20 ) وصادفوا موسى وهارون وهما واقفان للقائهم عند خروجهم من عند فرعون ( 21 ) فقالوا لهما : ينظر الرب ويحكم عليكما كما أفسدتما أمرنا عند فرعون وعند عبيده ، وجعلتما في أيديهم سيفا ليقتلونا " انتهى المراد منه .