( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) : حرمت العرب في جاهليتها زينة اللباس في الطواف تعبدا وقربة ، وحرم بعضهم أكل بعض الطيبات من الأدهان وغيرها في حال الإحرام بالحج كذلك ، وحرموا من الحرث والأنعام ما بينه تعالى في سورة الأنعام . وحرم غيرهم من الوثنيين وأهل الكتاب كثيرا من الطيبات والزينة كذلك . فجاء دين الفطرة الجامع بين مصالح البشر في معاشهم ومعادهم . المطهر المربي لأرواحهم وأجسادهم - ينكر هذا التحكم والظلم للنفس . فالاستفهام في قوله تعالى : ( قل من حرم ) إنكاري يدل على أن هذا التحريم من وساوس الشياطين . لا مما أوحاه تعالى إلى من سبق من المرسلين ، أي لم يحرمه أحد منهم ، ولم يجعل سبحانه حق التبليغ عنه لغيرهم ، وإضافة الزينة إلى الله تعالى يؤذن باستحسانها والمنة بها . وإخراجها للناس عبارة عن خلق موادها لهم وتعليمهم طرائق صنعها ، بما أودع في فطرهم من حبها . وفي عقولهم من الاستعداد للإبداع فيها ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، وأكثر للمنعم شكرا ، وأوسعهم بسننه وآياته علما ( والطيبات من الرزق ) هي المستلذات من الأطعمة والأشربة . واشتراط كونها حلالا يؤخذ هنا من النهي عن الإسراف فيها ، وصرح به في آيات أخرى كما تقدم في سورتي البقرة ( 2 : 168 ) والمائدة ( 5 : 90 - 91 ) .
خلق الله تعالى البشر مستعدين لإظهار آياته وسننه في جميع ما خلقه لهم في هذا العالم الذي يعيشون فيه ، ذلك بأنه أودع في غرائزهم ميلا إلى العلم والبحث وكشف المجهولات ، والاطلاع على الخفيات ، لا حد له يقف عنده . وحبا للشهوات الحسية والعقلية ، والزينة الصورية والمعنوية ، لا حد له أيضا . فاندفعوا بهذه الغرائز التي لم تخلق لغيرهم ممن يشاركهم في حياتهم الجسدية كأنواع الحيوان ، ولا في حياتهم الروحية من الملائكة والجان ، فلم يدعوا شيئا عرفوه بحواسهم إلا عنوا بالبحث فيه ، ولا شيئا عرفوه بعقولهم إلا بحثوا عنه ، ولم يكن بحثهم من طريق واحد ولا لغرض واحد ، بل من طرق كثيرة لأغراض شتى لم تنته ولن تنتهي في هذه الحياة المقضى عليها بالنهاية وكأنما هم مخلوقون لحياة لا نهاية لها ولا حد ، كما تدل عليه غرائزهم واستعدادهم الذي ليس له حد . [ ص: 346 ] ولقد كانت والزراعة وما يرقيها من فنون الصناعة وسائر وسائل العمران وإظهار عجائب علم الله وحكمته وقدرته في العالم ورحمته وإحسانه بالخلق . ولو وقف الإنسان عند حد ما تنبت له الأرض من الغذاء لحفظ حياة أفراده الشخصية وبقاء حياته النوعية كسائر أنواع الحيوان ، لما وجد شيء من هذه العلوم والفنون والأعمال . وهل كان ما ذكر في بيان خلقه الأول من أكل غريزة حب الزينة وغريزة حب الطيبات من الرزق سببا لتوسع البشر في أعمال الفلاحة آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عنها إلا بدافع غريزة كشف المجهول ، والحرص على الوصول إلى الممنوع ؟ وهل كان ما ذكر من حرمانهما من الراحة بنعيم الجنة التي يعيشان فيها رغدا بغير عمل ، إلا لبيان سنة الله في جعل هذا النوع عالما صناعيا تدفعه الحاجة إلى العمل ويدفعه العمل إلى العلم ، ويدفعه حب الراحة إلى التعب ، ويثمر له التعب الراحة ؟
وقد عرف من اختبار قبائل هذا النوع وشعوبه في حالي بداوته وحضارته ، أنه يتعب ويبذل في سبيل الزينة فوق ما يتعب ويبذل في سبيل ضروريات المعيشة ، وكثيرا ما يفضلها عليها عند التعارض ، فالمرء قد يضيق على نفسه في طعامه وشرابه ليوفر لنفسه ثمنا لثوب فاخر يتزين به في الأعياد والمجامع ، وماذا تقول في المرأة وهي أشد حبا للزينة من الرجل ، وقد تؤثرها على جميع اللذات الأخرى ؟ وإن توسع الأغنياء في أنواع الزينة التي ينفسون بها على الفقراء ، هو الذي وسع الطرق لاستفادة هؤلاء من فضل أموال أولئك ، فإن الغواصين الذين يستخرجون اللؤلؤ من أعمال البحار ، وعمال الصياغة والحياكة والتطريز والبناء والنقش والتصوير وسائر الزينات ، كلهم أو جلهم من الفقراء الذين يتزين الأغنياء بما يعملون لهم وهم منه محرومون ، ولكنهم لا يصلون إلى ما لا بد لهم منه من معيشة وزينة تليق بهم إلا بسبب تنافس الأغنياء فيه .
فحب الزينة أعظم أسباب العمران ، وإظهار استعداد الإنسان لمعرفة سنن الله وآياته في الأكوان ، فهي غير مذمومة في نفسها ، إنما يذم الإسراف فيها والغفلة عن شكر المنعم بها . ومن الإسراف فيها جعلها شاغلة عن عبادة الله تعالى وعن سائر معالي الأمور والكمالات الإنسانية ، من علمية أو عملية أو اجتماعية ، دنيوية كانت أو أخروية ، ومنه إضاعة الوقت الطويل في التطرز والتطرس والتورن كما يفعل النساء وبعض الشبان ، وكذلك الطيبات من الرزق ، وهذه الأمور المذمومة ليست لوازم للزينة ، والطيبات تحصل بحصولها وتزول بزوالها ، وليس الحرمان من الزينة والطيبات علة سببية ولا غائية للقيام بمعالي الأمور الدينية والدنيوية ولا لشكر الله تعالى والرضا عنه ، ولا هو أعون على ذلك . وإنما الابتلاء والاختبار يقع بكل من حصولهما والحرمان منهما ، وإن المالك لهما أقدر على طاعة الله وشكره وتزكية [ ص: 347 ] نفسه ونفع غيره من الفاقد لهما . فلا وجه إذا لتحريم الدين لهما ، ولا لجعله إياهما عائقين عن الكمال بحيث يعبد الله تعالى ويتقرب إليه بتركهما ، كما جرى عليه وثنيوا البراهمة وغيرهم وسرت عدواه التقليدية إلى أهل الكتاب غلوا في الدين ، وسرت عدوى هؤلاء وأولئك إلى كثير من المسلمين ، فصاروا يبثون في الأمة أن أصل الدين وروحه وسره في تعذيب النفس وحرمانها من الطيبات والزينة . وقد كذب الله الجميع بقوله عز وجل .
( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) أي قل أيها الرسول لأمتك : هي - أي الزينة والطيبات من الرزق - ثابتة للذين آمنوا بالأصالة والاستحقاق في الحياة الدنيا ، ولكن يشاركهم غيرهم فيها بالتبع لهم . وإن لم يستحقها مثلهم . وهي خالصة لهم يوم القيامة - أو حال كونها خالصة لهم يوم القيامة . ( فقد قرأ نافع " خالصة " بالرفع على أنها خبر والباقون بالنصب على الحالية ) - وقيل : إن المعنى هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة من المنغصات ولكنها تكون لهم يوم القيامة خالصة منها . وهذا المعنى صحيح في نفسه ولكن المتبادر هو الأول كما تدل عليه الآيات الناطقة بأن دين الله الحق يورث أهله سعادة الدنيا والآخرة جميعا كقوله تعالى : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) ( 2 : 123 ، 124 ) وقوله تعالى : ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ) ( 72 : 16 ) وقد بينا هذا المعنى مرارا .
وبيان هذا أن المؤمنين إنما كانوا أحق من الكافرين بهذه النعم ؛ لأنهم أجدر بما تتوقف عليه في ترقيها من العلوم والفنون التي أرشدهم إليها الإسلام بما حثهم عليه من معرفة سنن الله تعالى في خلقه ، وما أودعه في هذه المخلوقات من الحكم والمنافع والآيات البينات الدالة على قدرته وعلمه وحكمته فيما أحكم من صنعها ، وعلى رحمته وجوده وإحسانه إلى عباده بتسخيرها لهم ؛ ولأنهم أحق بشكره عليها بلسانهم وجوارحهم وقلوبهم ، فالمؤمن يزداد علما وإيمانا بربه وإلهه كلما عرف شيئا من سننه وآياته في نفسه أو في غيرها من الموجودات ، ويزداد شكرا له كلما زادت نعمه عليه بالعلم وثمرات العلم فيها ، ولذلك ذكرنا جل ثناؤه في أول هذا السياق بمنته علينا بتمكيننا في الأرض ، وما جعل لنا فيها من المعايش ، وبما يجب من شكره عليها . وقد بينا أن وهو شكر الجوارح ولا يكمل شكر الاعتقاد بأنها من فضله وشكر اللسان بالثناء عليه إلا بشكر الأعضاء العملي وهو الاستعمال ، وفي حديث من أصول الشكر قبول النعمة واستعمالها فيما وهبها المنعم لأجله عند أبي هريرة أحمد والترمذي والنسائي والحاكم " " وهو حديث صحيح . والذي يظهر لنا من جعل التنظير فيه بين الطاعم الشاكر والصائم الصابر دون الجائع [ ص: 348 ] الصابر ، أن الجوع أمر سلبي ، ولكن الصيام عمل نفسي يشترط فيه النية ، فهو طاعة كالأكل بالنية مع الشكر . الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر
والأكل والشرب من الطيبات بدون إسراف هما قوام الحياة والصحة التي يتوقف عليها القيام بجميع الأعمال الدينية والدنيوية من عقلية وبدنية ، ولهما التأثير العظيم في جودة النسل الذي تكثر به الأمة ، والأطباء يحظرون الزواج على كثير من المرضى ويعدون زواجهم خطرا على صحتهم ، وجناية على نسلهم وعلى أمتهم بما يكون سببا لسوء حال نسلها والمؤمن الكامل الذي من شأنه ألا يعمل عملا إلا بنية صالحة ، يقصد بحسن تغذية بدنه بالطيبات كل ما يعقله من فوائدها ، ويتجنب ما نهى الله عنه من الإسراف فيها ومن أكل الحرام ، فيكون عابدا لله تعالى في ذلك كله فتكثر حسناته فيه ، فلا غرو إذ عد في أكله كالصائم فيما يناله من الثواب ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " " أي في الملامسة الزوجية أجر وثواب كثواب الصدقة - قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : " وفي بضع أحدكم صدقة " - رواه أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر مسلم من حديث أبي ذر - والكافر ليس كذلك ؛ فإنه لا يكون له هم في الغالب إلا التمتع بالشهوة غير متحر للحلال ولا لحسن النية ، ولذلك ورد في حديث الصحيحين " . " المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء
واللباس الجيد النظيف له فوائد في حفظ الصحة معروفة ، وله تأثير في حفظ كرامة المتجمل به في أنفس الناس ، فإن القلوب من وراء الأعين ، وفيه إظهار لنعمة الله به وبالسعة في الرزق الذي له شأن في القلوب غير شأن التجمل في نفسه ، والمؤمن يثاب بنيته على كل ما هو محمود من هذه الأمور وبالشكر عليها . روى أبو داود عن أبي الأحوص عن أبيه قال : " وأخرج أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب دون فقال : " ألك مال ؟ " قال : نعم . قال : " من أي المال " قال : قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق . قال : " فإذا آتاك الله فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته الترمذي وحسنه عن عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عمرو بن شعيب " وأخرج إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده أبو داود عن قال : لما خرجت ابن عباس الحرورية أتيت عليا فقال : ائت هؤلاء القوم ، فلبست أحسن ما يكون من حلل اليمن ، فأتيتهم ، فقالوا : مرحبا بك يا ، ما هذه الحلة ؟ قلت ما تعيبون علي ؟ ابن عباس . وأخرج لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل ابن مردويه عنه قال : وجهني إلى علي بن أبي طالب ابن الكواء وأصحابه وعلي قميص رقيق وحلة ، فقالوا لي : أنت وتلبس مثل هذه الثياب ؟ قلت : أول ما أخاصمكم [ ص: 349 ] به قال الله : ( ابن عباس قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ) و ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس في العيدين بردي حبرة .
وحكى في كتاب العلم من الإحياء أن الغزالي يحيى بن يزيد النوفلي كتب إلى رضي الله عنهما - بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على رسوله مالك بن أنس محمد في الأولين والآخرين : من يحيى بن يزيد بن عبد الملك إلى ، أما بعد فقد بلغني أنك تلبس الدقاق ، وتأكل الرقاق وتجلس على الوطئ ، وتجعل على بابك حاجبا ، وقد جلست مجلس العلم وقد ضربت إليك المطي ، وارتحل إليك الناس واتخذوك إماما ورضوا بقولك ، فاتق الله تعالى يا مالك بن أنس مالك ، وعليك بالتواضع ، كتبت إليك بالنصيحة مني كتابا ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى والسلام .
فكتب إليه مالك : بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم من إلى مالك بن أنس يحيى بن يزيد ، سلام الله عليك ، أما بعد فقد وصل إلي كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب ، أمتعك الله بالتقوى وجزاك بالنصيحة خيرا . وأسأل الله تعالى التوفيق . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق وألبس الدقاق ، وأحتجب وأجلس على الوطئ ، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى . فقد قال تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا والسلام اهـ .
إذا صحت هذه الحكاية فمراد الإمام مالك : أن ترك مجموع ذلك خير لمن صار يقتدي به مثله ، أو قاله تواضعا ، ولذلك لم يتركه . ولم يكن النوفلي من طبقة مالك في علم ولا عمل ، بل ضعفه الإمام أحمد وغيره في الحديث . وقد كان قشف بعض السلف عن قلة ، وتقشف بعضهم لأجل القدوة . وإنما الزهد في القلب ، فلا ينافيه الاعتدال في الزينة وطيبات الأكل والشرب ، ولا كثرة المال إذا أنفق في مصالح الأمة وتربية العيال . وقد جهل ذلك أكثر الصوفية وبينه أحد أركان التحقيق في العلم منهم كالسيد . فقد روي أن بعض مريديه شكوا إليه إقبال الدنيا عليهم فقال : أخرجوها من قلوبكم إلى أيديكم فإنها لا تضركم . عبد القادر الجيلي
فقد علمنا من هذا كله أن وأنها لهم بالذات والاستحقاق . وهو مبني على أنه يجب أن يكونوا بمقتضى الإيمان والإسلام أعلم من الكافرين بالعلوم والفنون والصناعات الموصلة إليها . وأن يكونوا من الشاكرين [ ص: 350 ] عليها ، ذلك الشكر الذي يحفظها لهم ويكون سببا للمزيد فيها بحسب وعد الله تعالى وسننه في خلقه ومنه تفهم حكمة تذييل الآية بقوله تعالى : ( الزينة والطيبات من الرزق هي حق المؤمنين في الدنيا كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) أي من شأنهم العلم بأمثال هذه الأحكام وحكمها ولو بعد خطابهم بها ، وقد سبق مثل هذا التعبير . والمعنى : أن هذا التفصيل لحكم الزينة والطيبات الذي ضل فيه أفراد وأمم كثيرة من البشر إفراطا وتفريطا ، لا يعقله إلا القوم الذين يعلمون سنن الاجتماع وطبائع البشر ومصالحهم وطرق الحضارة الشريفة فيهم ، وقد فصلها تعالى لهم بهذه الآيات الموافق هديها لفطرة الله التي فطر الناس عليها ، على لسان نبيه الأمي الذي لم يكن يعرف شيئا من تاريخ البشر في بداوتهم وحضارتهم وإفراطهم وتفريطهم فيهما ، قبل أن أنزل الله تعالى عليه كتابه الحكيم تبيانا لكل شيء يحتاجون إليه في سعادتهم ، فكان هذا التفصيل من الآيات العلمية على نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه خلاصة علوم كثيرة فاصلة بين النافع والضار ، ما كان لمثله أن يعلمها بذكائه ، وإنما هي وحي الله له . وقد قصر المفسرون في بيان هذه الحقائق ، على أن بعض المحققين قد ذكروا ما يؤيد ما قلناه وإن لم يحتج إلى تأييدهم لوضوحه في نفسه . فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المسلمين أعلم من جميع الكافرين بكل العلوم البشرية ، وأن أهل السنة منهم أعلم من المبتدعة بذلك .
نعم هكذا كان ، فلولا القرآن لما خرجت العرب من ظلمات جاهليتها وبداوتها ووثنيتها إلى ذلك النور ، الذي صلحت به وأصلحت أمما كثيرة بالدين والعلوم والفنون والآداب بما أحيت من علوم الأوائل وفنونها ، وأصلحت من فاسدها ، فصدق عليهم تعريف الدين المشهور بأنه : وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى ما فيه نجاحهم في الحال ، وفلاحهم في المآل . أو إلى سعادة الدارين . ولقد كان من العجب أن يغفل الكثيرون عن سبب هذه الحضارة أو يجهلوا أنه القرآن . حتى كان الجهل لسببها سببا لإضاعته وإضاعتها ، وأمسى المسلمون من أجهل الشعوب وأفقرهم وأضعفهم ، وأقلهم خدمة لدينهم - فغاية دينهم أن تكون لهم زينة الدنيا وطيباتها وسيادتها وملكها ، وأن يكونوا فيها شاكرين لله عليها ، قائمين بما يرضيه من الحق والعدل والخير والبر وكل ما تقتضيه خلافته في الأرض وبذلك يكونون أهلا لسعادة الدنيا والآخرة . والدنيا مزرعة الآخرة كما قال أحد حكماء دينهم ، ثم انتهى هذا الجهل بالكثيرين من أهل هذا العصر منهم ومن غيرهم أن صاروا يظنون أن دين الإسلام هو سبب ضعف المسلمين وجهلهم وذهاب ملكهم ! وقد بينا من قبل بطلان هذا الجهل الذي قلب الحقيقة قلبا وحجتنا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتاريخ هذه الأمة ، ولكن القارئين قليلون ، والذين يفهمون منهم أقل والذين يعتبرون بما يفهمون أندر ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .