: حكمة خلق الله الخلق واستعداد الشيطان والبشر للشر
اعلم أن الحكمة العليا لخلق جميع المخلوقات هي أن يتجلى بها الرب الخالق لها بما هو متصف به من صفات الكمال ، ليعرف ويعبد ، ويشكر ويحمد ، ويحكم ويجزي فيعدل ويغفر ويعفو ويرحم ، إلخ . فهي مظهر أسمائه وصفاته . ومجلى سننه وآياته ، وترجمان حمده وشكره ، ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) ( 17 : 44 ) لذلك كانت في غاية الإحكام والنظام ، الدالين على العلم والحكمة والمشيئة والاختيار ، ووحدانية الذات والصفات والأفعال ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) ( 27 : 88 ) ( الذي أحسن كل شيء خلقه ) ( 32 : 7 ) كما نطق القرآن ، الخير كله بيديه والشر ليس إليه ، كما ورد في الحديث بل ليس في خلقه ما هو شر محض في نفسه ، وإنما الشر أمر اعتباري ، مداره على ما يؤلم الأحياء أو تفوت به مصلحة أو منفعة على أحد منهم ، فيكون شرا له إن لم يترتب على ذلك منفعة أعظم ، أو دفع مفسدة أكبر ، فإن الإنسان قد يتألم من الدواء الذي يزيل مرضه الذي هو أشد أو أطول إيلاما منه ، وقد تفوته منفعة صغيرة يكون فوتها سببا لمنفعة أكبر منها ، كالذي يبذل ماله في المصلحة العامة لملته ووطنه فيكرم ويكون قدوة في الخير . وحظه من كرامة الأمة وعمران الوطن أعظم مما بذل من المال ، وفوق ذلك من يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله - وهي سبيل الحق والخير وسعادة الدارين - ابتغاء مرضاته والزلفى عنده .
وقد ، وأن تكون المقابلات والنسب بين بعضها مختلفة من توافق وتباين وتضاد ، ويترتب على ذلك في نظام الخلق أن الضد يظهر حسنه الضد ، وأن تكون مصائب قوم عند قوم فوائد ، وأن يسيء بعضهم إلى نفسه أو إلى غيره ، وأن يكون [ ص: 303 ] بعضهم مفطورا على طاعة ربه ، دائبا على عبادته وحمده وشكره ، وأن يكون بعضهم مختارا في عمله ، مستعدا للأضداد في ميله وطبعه ، يتنازعه عاملا الكفر والشكر ، وتشتبه عليه حقيقتا التوحيد والشرك ، وتتجاذبه داعيتا الفجور والبر ، فيكون لشكره وبره وطاعته لربه من عظم الشأن مع معارضة الموانع ما ليس للفطور على ذلك ، وقد يعصي فيفيده العصيان خوفا ورهبة ، ويحمله على التوبة فيكون له أوفر حظ من اسمي العفو الغفور وقد يستكبر عن الطاعة والإيمان ويصر على الفسوق والعصيان ، فيكون موضعا لعقاب الحكم العدل ، وآية فيه على تنزهه تعالى عن الجور والظلم . كان من مقتضى تحقق معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلى أن يخلق ما علمنا وما لم نعلم من أنواع المخلوقات
ولا نعرف نوعا من أنواع الخلق مفطورا على الباطل والشر ، مجبورا على الفسق والكفر فهو غير موجود على أنه لو وجد لما صح أن يعترض به العبد المربوب على الرب المعبود وهذه الآيات المبينة لمعصية إبليس - وهو شر أفراد هذا النوع المسمى بالجن - تدل على أنه كان مختارا في عصيانه بانيا إياه على شبهة احتج بها عليه ، وكذلك خلق الله نوعه فكانوا كالبشر منهم المؤمن والكافر والبر والفاجر ، كما يعلم من السورة التي سميت باسمهم ( الجن ) وقال تعالى : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) ( 18 : 50 ) الفسق الخروج من الشيء ، فهو يدل على أنه كان قبل ذلك يطيعه ويعبده كما يدل عليه وجوده مع الملائكة ، وعقوبته بإخراجه منهم بعد المعصية . وقد عصى آدم ربه بعد عصيان إبليس ، وكان الفرق بينهما أن آدم تاب إلى ربه فتاب عليه وهداه واجتباه وجعله موضع مغفرته ورحمته ، وأن إبليس أصر على عصيانه واحتج على ربه فلعنه وأخزاه ، وجعله موضع عدله في عقابه ، وقص قصصهما على المكلفين من ذريتهما بما أظهر حقيقة النوعين ، ومآل العملين ، عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين ، وابتلاء - اختبارا - للعالمين يميز الله به المحسنين والمسيئين ، ويزيل بين الطيبين والخبيثين ، إذ كان من سننه فيهما أن الحياة جهاد ، يظهر به ما أودع في النفوس من الاستعداد ، وأن من حكم تفاوت البشر فيه أن يكون منهم العالم والجاهل ، والحكيم والحاكم ، والمسوس والسائس ، والقائد والجندي ، والمخدوم والخادم ، والزارع والصانع ، والتاجر والعامل . فلولا العمال - مثلا - لما اتسعت مسائل العلوم بالأعمال ، ولما أمكن الانتفاع بما كشف العلماء من أسرار الطبيعة وخواص المخلوقات ، ولولا ذلك لما عرفت نعم الخالق وسننه ودقائق علمه وحكمته في الأشياء ، وغير ذلك من معاني الصفات ومظاهر الأسماء ، وموجبات الحمد والشكر والثناء .
وجملة القول أن كل ما خلقه الله تعالى فهو حسن في نفسه ، متقن في صنعه ، مظهر [ ص: 304 ] لنوع أو أنواع من حكمه في خلقه ، ومن كماله في ذاته وصفاته ، ولا شيء منه بباطل ولا بشر محض ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) ( 15 : 85 ) ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) ( 38 : 27 )
وإذا كان من حكمته تعالى فيما ذكر من معصيتي أبوي الإنس والجن ظهور استعدادهم وإظهار حكمه تعالى في الجزاء على الذنوب في حالي التوبة منها والإصرار عليها ، والعبرة والموعظة ، وحسن الأسوة ، وسوء القدوة ، والابتلاء والجهاد وغيره مما بينا - وإذا كانت معصية الأول بسبب وسوسة الآخر - فلا خفاء في استمرار ذلك في ذريتهما ؛ لأنه من مقتضى فطرة نوعيهما ، التي هي مظهر أسماء الله وصفاته فيهما ، فجنس الجن أو الجنة الغيبي الروحاني نوعان أو صنفان : صنف ملكي يلابس بعضه أرواح البشر الميالة إلى الحق والخير فتقوي داعيتهما فيها ، وصنف شيطاني يلابس أرواح البشر الميالة إلى الباطل والشر فتقوي داعيتهما فيها ، كما بينه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : ( " ثم قرأ ( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) ( 2 : 268 ) الآية - رواه الترمذي وقال حسن غريب ، ، والنسائي ، وابن حبان والبيهقي في الشعب ، ورواة التفسير المأثور من حديث - ومثل اتصال نوعي الجنة الروحية بروح الإنسان كل بما يناسب طبعه - كمثل اتصال نوعي الجنة المادية بجسده وتأثيرها فيه بحسب استعداده ، وهي ما يسميه الأطباء بالميكروبات وسماها بعض الأدباء النقاعيات ، فإن منها جنة الأمراض والأوبئة التي تؤثر في الجسم القابل لها بضعفه ، والميكروبات التي تقوى بها الصحة كما بيناه من قبل . ابن مسعود
قال الراغب في مفرداته : والجن يقال على وجهين ( أحدهما ) للروحانيين : المستترة عن الحواس كلها بإزاء الإنس ، فعلى هذا تدخل فيه الملائكة والشياطين فكل ملائكة جن وليس كل جن ملائكة ، وعلى هذا قال أبو صالح : الملائكة كلها جن . وقيل : بل الجن بعض الروحانيين ، وذلك أن الروحانيين ثلاثة : أخيار وهم الملائكة . وأشرار وهم الشياطين ، وأوساط فيهم أخيار وأشرار وهم الجن . ويدل على ذلك قوله تعالى : ( قل أوحي إلي ) ( 72 : 1 ) إلى قوله عز وجل : ( وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ) ( 72 : 14 ) والجنة جماعة الجن اهـ . وأقول : إن هذا لا يخالف ما ذكر قبله من وحدة الجنس ؛ فإنه غلب على قسمين منه اسمان مميزان لهما لتضادهما . وقد فسرت الجنة - بالكسر - في قوله تعالى : ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ) ( 37 : 158 ) بالملائكة كما يدل عليه قوله قبل [ ص: 305 ] الآية عن كفار قريش : ( فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ) ( 37 : 149 ) الآيات . قال مجاهد وعكرمة وأبو صالح وأبو مالك وقتادة : إن الجنة في الآية الملائكة ، وإن المراد بالنسب قولهم الملائكة بنات الله ( ولقد علمت الجنة ) أي الملائكة ( إنهم لمحضرون ) في النار مقدمون على عذاب الكفر . اهـ . ملخصا بالمعنى .
نكتفي هنا بهذا ونحيل في زيادة بسطه وإيضاحه على ما تكرر في هذا التفسير من بيان وكذا ما بيناه في خلق الجن والشياطين ووسوستهم ودرجة تأثيرها في آيات البقرة وغيرها وما حققناه في مسألة الخير والشر . وللمحقق حكمة الله في خلق البشر متفاوتي الاستعداد مختارين في الأعمال ابن القيم بحث طويل في حكم الله في خلق إبليس يراجع في محله .
ومن المباحث اللفظية في القصة أنه إذا قوبل ما هاهنا بما في سورة الحجر يرى خلاف في الفصل والوصل في مقول القول من بعض الأسئلة والأجوبة ، مع الاتفاق على الفصل في بدء كل منها بـ " قال " على الاستئناف البياني كما تقدم . فهاهنا عطف أمر الرب سبحانه لإبليس بالهبوط وأمره الأول له بالخروج بالفاء ، وكذا قول إبليس " فبما أغويتني " على أنه مرتب على ما قبله متفرع عنه كما أشرنا إليه في مواضعه . وفصل طلب إبليس للإنظار وجواب الرب له وأمره الثاني بالخروج وأما في سورة الحجر فقد وصل كلا من طلب الإنظار وجوابه بالفاء وكذا في سورة ص ، وفصل تعليل إغوائه للناس بإغواء الرب له إذ قال : ( رب بما أغويتني ) ( 15 : 39 ) فخالف ذلك ما في سورة الأعراف ولكن اتفقت السورتان في عطف الأمر بالخروج بالفاء .
فهاهنا يقال : إننا علمنا من سنة القرآن في قصصه المكررة أنها لما كانت منزلة لأجل العبرة والموعظة والتأثير في العقول والقلوب اختلفت أساليبها بين إيجاز وإطناب ، وذكر في بعضها من المعاني والفوائد ما ليس في البعض الآخر ، حتى لا تمل للفظها ولا لمعانيها ، وعلمنا أن الأقوال المحكية فيها إنما هي معبرة عن المعاني وشارحة للحقائق وليست نقلا لألفاظ المحكى [ ص: 306 ] عنهم بأعيانها ، فإن بعض أولئك المحكي عنهم أعاجم ، ولم تكن لغة العربي منهم كلغة القرآن في فصاحتها وبلاغتها - دع ما قيل فيه هنا من أن القصة مبينة لحقائق ثابتة في نفسها بأسلوب التمثيل ، وما ثم أقوال قيلت بالعربية ولا غيرها - علمنا هذا وذاك . ولكن الذي نجزم به أنه لا يمكن أن يكون في كتاب الله اختلاف في المعاني وإن لم يكن تناقضا ، وأن اختلاف الأساليب وطرق التعبير فيه عن المعنى الواحد لا تختلف إلا لنكت تفيد من فهمها فائدة لفظية أو معنوية ، فما فائدة ما ذكر من اختلاف الفصل والوصل في سورتي الأعراف والحجر ؟
الجواب : أن الوصل بالعطف بالفاء في موضعه أفاد معنى زائدا على ما ورد في مثله بالفصل استئنافا ولا يحتاج في زيادة الفائدة إلى نكتة غيرها ، على أنك إذا تأملت السياق في كل من الموضعين وجدت أن طلب إبليس الإنظار في سورة الحجر قد ذكر بعد أمره بالخروج معطوفا بالفاء لترتبه على ما قبله ، ووصفه بأنه رجيم مقرونا بفاء السببية ولعنه إلى يوم الدين - فلا غرو إذا جعل طلبه للإنظار فيها متصلا بما قبله متفرعا عنه ، كأنه يقول يا رب إذ طردتني من رحمتك ، فأطل حياتي في هذه الدنيا إلى يوم البعث إتماما لحكمتك ، فأجابه تعالى جوابا معطوفا على طلبه إلى ما تتم به الحكمة ، لا إلى ما تتحقق به أمنيته في النجاة من الموت . ولعل تعالى لأنه لا حظ له في الآخرة ، ويحتمل أن يكون قد قصد هذا من طلبه الإنظار . من حكمه تعالى في إنظار إبليس أن يتمتع في الدنيا جزاء على ما كان من عبادته
وأما نكتة حذف الفاء من قوله في سورة الحجر : ( رب بما أغويتني ) مع إثباتها في سورة الأعراف لارتباطها بما قبلها فهي كما قال الخطيب الإسكافي : إن الدعاء في الصدر يستأنف بعده الكلام والقصة غير مقتضية لما قبلها كما اقتضاها قوله : ( رب فأنظرني ) والفاء توجب اتصال ما بعدها بما قبلها ، والنداء أولا يوجب القطع واستئناف الكلام ولا سيما في قصة لا يقتضيها ما قبلها ، فلم تحسن الفاء مع قوله : ( رب بما أغويتني ) والموضعان الآخران لم يدخل فيهما نداء يوجب استئناف ما بعده ، فلذلك وصل القسم فيهما بالأول بدخول الفاء اهـ .