( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )
بين الله تعالى فيما قبل هذه الآيات حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم ربهم ، ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم به وافترائهم عليه ، بعد أن بين لهم جميع ما حرمه على عباده من الطعام - ثم بين في هذه الآيات أصول المحرمات ومجامعها في الأعمال والأقوال ، وما يقابلها من أصول الفضائل والبر ، فقال عز من قائل :
( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) أي قل - أيها الرسول - لهؤلاء المتبعين للخرص وللتخمين في دينهم ، وللهوى فيما يحرمون ويحللون لأنفسهم ولسائر الناس أيضا بما لك من الرسالة العامة : تعالوا إلي وأقبلوا علي أتل وأقرأ لكم ما حرم ربكم عليكم فيما أوحاه إلي من العلم الصحيح وحق اليقين ، فإن الرب وحده هو الذي له حق التحريم والتشريع ، وإنما أنا [ ص: 162 ] مبلغ عنه بإذنه ، أرسلني لذلك وعلمني - على أميتي - ما لم أكن أعلم ، وأيدني بالآيات البينات ، وقد خص التحريم بالذكر مع أن الوصايا التي بين بها التلاوة أعم لمناسبة ما سبق من إنكار أن يحرم غير الله ; ولأن بيان أصول المحرمات كلها يستلزم حل ما عداها لأنه الأصل ، وقد صرح بأصول الواجبات من هذا الحلال العام . وأصل ( تعالوا ) و ( تعال ) الأمر ممن كان في مكان عال لمن دونه بأن يتعالى ويصعد إليه ، ثم توسعوا فيه فاستعملوه في الأمر في الإقبال مطلقا . واستعمال المقيد في المطلق من ضروب المجاز المرسل إلا إذا كثر فلم يحتج إلى قرينة ، ولم ينظر فيه إلى علاقة كهذه الكلمة ولا سيما في غير هذا الموضع ، ولهي فيه خطاب ممن هو في أعلى مكان من العلم والهدى لمن هم في أسفل درك من الجهل والضلال ، عبدة الأصنام ، ومتبعي الظنون والأوهام ، ولغيرهم ممن لا يسمو إلى ذلك المقام ، وإن كان دونهم في الجهل والآثام .
وقوله : ( ألا تشركوا به شيئا ) شروع في بيان ما حرم الرب وما أوصى به من البر ، وقد أورد بعضه بصيغة النهي عن الشيء ، وبعضه بصيغة الأمر بضده حسب ما تقضيه البلاغة كما سيأتي ، و " أن " تفسيرية ، وندع النحاة في اضطرابهم وخلافهم في تطبيق ما في حيزها من النهي والأمر على قواعدهم ، فنحن لا يعنينا إلا فهم المعاني من الكلام بغير تكلف ، وما وافق القرآن من قواعدهم كان صحيحا مطردا ، وما لم يوافقه فهو غير صحيح أو غير مطرد ، وسنريك فيه من البيان ، ما يغنيك عن تحقيق السعد ، وحل إشكالات أبي حيان .
بدأ تعالى هذه الوصايا وأشدها إفسادا للعقل والفطرة وهو الشرك بالله تعالى ، سواء كان باتخاذ الأنداد له ، أو الشفعاء المؤثرين في إرادته المصرفين لها في الأعمال ، وما يذكر بهم من صور وتماثيل وأصنام أو قبور - أو كان باتخاذ الأرباب الذين يشرعون الأحكام ، ويتحكمون في الحلال والحرام - وكذا من يسند إليهم التصرف الخفي فيما وراء الأسباب - وكل ذلك واضح من الآيات السابقة وتفسيرها . وتقدير الكلام : أول ما أتلوه عليكم في بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات - أو - أول ما وصاكم به تعالى من ذلك كما يدل عليه لاحق الكلام ، هو ألا تشركوا بالله شيئا من الأشياء وإن كانت عظيمة في الخلق كالشمس والقمر والكواكب ، أو عظيمة في القدر كالملائكة والأنبياء والصالحين ، فإنما عظم الأشياء العاقلة وغير العاقلة بنسبة بعضها إلى بعض ، وذلك لا يخرجها عن كونها من خلق الله ومسخرة بقدرته وإرادته ، وعن كون العاقل منها من عبيده ( بأكبر المحرمات وأفظعها إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) ( 19 : 93 ) - أو ألا تشركوا به شيئا من الشرك صغيره أو كبيره - ومقابله أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم ، ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم ، وهذا هو المقصود بالذات [ ص: 163 ] الذي دعا إليه جميع الرسل ، وهو لازم للنهي عن الشرك الذي عبر به هنا ; لأن الخطاب موجه إلى المشركين أولا وبالذات .