بعد أن نفى عنهم أدنى ما يقال له علم ، وحصر ما هم عليه من الدين في أدنى مراتب الظن ، مع أن أعلاها لا يغني من الحق من شيء . أثبت لذاته العلية في مقابلة ذلك الحجة العليا التي لا تعلوها حجة فقال :
( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) الحجة في اللغة الدلالة المبينة للحجة ، أي المقصد المستقيم - كما قال الراغب - فهي من الحج الذي هو القصد ، والمعنى قل أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين الذين بنوا قواعد دينهم على أساس الخرص الذي هو أضعف الظن ، بعد تعجيزك إياهم عن الإتيان بأدنى دليل أو قول يرتقي إلى أدنى درجة من العلم : إن لم يكن عندكم علم ما في أمر دينكم ، فلله وحده أعلى درجات العلم ، مما بعثني به من محجة دينه القويم ، وصراطه المستقيم ، وهو الحجة البالغة لما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل ، وهي ما بينه في هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد وقواعد الشرائع وموافقتها لحكم العقول السليمة والفطر الكاملة ، وسنن الله في الاجتماع البشري وتكميلها للنظام العام ، الذي يعرج عليه الإنسان في مراقي الكمال ، ولكن لا يكاد يهتدي بهذه الآيات المنبثة في الأكوان ، المبينة في آية الله الكبرى وهي القرآن ، إلا المستعد للهداية ، وهو المحب للحق الحريص على طلبه ، الذي يستمع القول فيتبع أحسنه ، دون من أطفأ باتباع الهوى [ ص: 157 ] نور فطرته ، أو استخدام عقله لكبريائه وشهوته ، المعرض عن النظر في الآيات استكبارا عنها ، أو حسدا للمبلغ الذي جاء بها ، أو جمودا على تقليد الآباء ، واتباع الرؤساء ، فإنما الحجة علم وبيان ، لا قهر ولا إلزام ، وما على الرسل إلا البلاغ ، وإلا فلو شاء هدايتكم بغير هذه الطريقة التي أقام أمر البشر عليها وهي التعليم والإرشاد ، بطريق النظر والاستدلال ، وما ثم إلا الخلق والتكوين أو القهر والإلزام - لهداكم أجمعين بجعلكم كذلك بالفطرة كما خلق الملائكة مفطورين على الحق والخير وطاعة الرب ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) ( 66 : 6 ) أو بخلق الطاعة فيكم بغير شعور منكم ولا إرادة كجريان دمائكم في أبدانكم ، وهضم معدكم لطعامكم ، أو مع الشعور بأنها ليس من أفعالكم ، وحينئذ لا تكونون من نوع الإنسان الذي قضت الحكمة وسبق العلم بأن يخلق مستعدا لاتباع الحق والباطل ، وعمل الخير والشر ، وكونه يرجح بعض ما هو مستعد له على بعض الاختيار ، واختياره لأحد النجدين على الآخر بمشيئته لا ينفي مشيئة الله تعالى ولا يعارضها ، فإنه تعالى هو الذي شاء أن يجعله فاعلا باختياره ، كما بيناه من قبل في مواضع ، ومثل هذه الآية قوله تعالى من هذه السورة : ( ولو شاء الله ما أشركوا ) ( 107 ) وقوله منها أيضا : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) ( 35 ) وأيضا ( من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) ( 39 ) وقوله : ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) ( 5 : 48 ) وقوله : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) ( 11 : 118 ، 119 ) وقوله : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) ( 10 : 99 ) فالآيات في هذا المعنى كلها بيان لسنة الله في خلق الإنسان كما بيناه في تفسير ما تقدم منها وفي مواضع أخرى ، وهي حجة على المجبرة والقدرية جميعا لا لهما .
وقد تمارى المعتزلة والأشعرية في تطبيق هذه الآيات على مذاهبهما في إنكار ، وفي نفي عقيدة الجبر عند تعلق المشيئة الإلهية بما هو قبيح كالشرك والمعاصي المعتزلة وإثبات الأشعرية لهما . وقد جمعنا فيما جرينا عليه آنفا بين رد الشبهتين لأن المفتونين بهما إلى اليوم كثيرون ينتمون إلى مذاهب ما لهم بها من علم .
وقد رأينا أن نلخص أقوال المفسرين من السلف والخلف في الآيات ليعرف منه ضعف المذاهب النظرية المتعارضة لأهل الكلام . قال في تفسير : ( الزمخشري كذلك كذب الذين من قبلهم ) بعد أن قال : إن احتجاجهم كمذهب المجبرة بعينه ما نصه : أي جاءوا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وجل ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها ، والرسل أخبروا بذلك ، فمن علق والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله ، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره اهـ . [ ص: 158 ] وقد رد عليه خصومهم وجود القبائح من الكفر الأشعرية بأن الرسل لم تنف بل أثبتت وقوع كل شيء بمشيئة الله وتقديره ، وإن كان قبيحا ممن فعله ، لما يترتب عليه من عقابه عليه لإتيانه إياه باختياره كالكفر والمعصية ، وأن المشيئة والإرادة منه تعالى ليست بمعنى الرضا ولا تستلزمه ، وقرر جمهورهم أن مراد المشركين بشبهتهم أن الله تعالى راض عن شركهم وتحريمهم لما حرموا ، بدليل مشيئته له منهم دون غيره لا أنه أجبرهم عليه . وقد احتج السلف بالآية على منكري القدر قبل حدوث مذهبي المعتزلة والأشعرية ، فقد روى أكثر مدوني التفسير المأثور وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنه قيل له : إن أناسا يقولون إن الشر ليس بقدر ، فقال ابن عباس : بيننا وبين ابن عباس أهل القدر هذه الآية : ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ) إلى قوله : ( فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) وأخرج أبو الشيخ عن قال : انقطعت حجة علي بن زيد القدرية عند هذه الآية ، أي الأخيرة .
وقال الحافظ ابن كثير في قوله تعالى في رد الآية على شبهتهم : أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء ، وهي حجة داحضة باطلة لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم ، وأدال عليهم رسله الكرام ، وأذاق المشركين من أليم الانتقام انتهى . وقد جزم أيضا بأن الله تعالى كذب المشركين هنا بزعمهم أن الله رضي منهم عبادة الأوثان ، وتحريم ما حرموا من الحرث والأنعام ، لا بقولهم : ( ابن جرير لو شاء الله ما أشركنا ) إلخ . فإنه قول صحيح ، أي ولكنه حق أريد به باطل ، واستدل على ذلك بتشبيهه تعالى تكذيبهم بتكذيب من كان قبلهم من المشركين لرسل الله إليهم ، وما جاءوهم به من التوحيد وإنكار الشرك ، وما لم يأذن الله به من الشرع في التحليل والتحريم والعبادة وغير ذلك . ولكن عبارته في هذا المقام مضطربة ليست كسائر عباراته في الجلاء . وقد قال في آخرها أن لها عنده عللا أخرى غير ما ذكره يطول بذكرها الكتاب ( قال ) : " وفيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه " وما قال هذا إلا من شعور بضعف العبارة وأنها لا تكاد تفهم بسهولة .
وقد جارى أحمد بن المنير صاحب الكشاف على جعل شبهة المشركين عين شبهة المجبرة ، ثم جعل الآيتين مبطلتين لمذهبي المعتزلة والمجبرة جميعا ، فقال في الانتصاف ما نصه : قد تقدم أيضا الكلام على هذه الآية وأوضحنا أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم ، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار ، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك ، فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم ، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله ، واعتمد على أنه [ ص: 159 ] إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة ، ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك ، وأن الحجة البالغة له لا لهم بقوله : ( قل فلله الحجة البالغة ) ثم أوضح تعالى أن كلا واقع بمشيئته ، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم ، وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله : ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم وتتلخص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم وإلى إقامتهم الحجة بذلك . وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن ، بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها ، وهم الفرقة المعروفون العبد لا اختيار له ولا قدرة ألبتة بالمجبرة ، والمصنف يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة ; لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية ، مميزة بينها وبين أفعاله القسرية ، فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة ويجعله لقبا عاما لأهل السنة ، وجماع الرد على المجبرة الذين ميزناهم عن أهل السنة في قوله تعالى : ( سيقول الذين أشركوا ) إلى قوله : ( قل فلله الحجة البالغة ) وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين فلم تقع من أكثرهم ، ووجه الرد أن ( لو ) إذا دخلت على فعل مثبت نفته ، فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال : ( فلو شاء ) لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم ، ولو شاءها لوقعت . فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم ، فإذا ثبت اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين : المجبرة في أولها ، والمعتزلة في آخرها ، فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها ; فإن أولها كما بينا يثبت للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان ، وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد ، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية خيرا أو غيره ، وذلك عين عقيدتهم . فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة يسلبون تأثيرهما ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره ، ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده ، فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز ، يثبتون ما أثبت وينفون ما نفى ، مؤيدون بالعقل والنقل ، والله الموفق اهـ .
ونقول : إنه قد أجاد إلا في زعمه أن مذهب أهل السنة : أن قدرة العبد لا تأثير لها ، فهذا مذهب الأشعرية أو أكثرهم ، ومذهب أهل الأثر وهم أئمة السنة وبعض محققي الأشاعرة : أن قدرة العبد مؤثرة في عمله كتأثير سائر الأسباب في المسببات بمشيئة الله [ ص: 160 ] الذي ربط بعضها ببعض ، كما هو ثابت بالحس والوجدان والقرآن ، وأطال المحقق كإمام الحرمين ابن القيم في إثباته في شفاء العليل وغيره .