الثاني : التفصيل بين ما يؤكل نظيره في البر ، كالبقرة والشاة فتباح ميتة البحري منه ، وبين ما لا يؤكل نظيره في البر كالخنزير والكلب فتحرم ميتة البحري منه ، ولا يخفى أن حجة الأول أظهر لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : " " وقوله تعالى : ( وطعامه ) كما تقدم . الحل ميتته
وأما مذهب - رحمه الله - فهو أن كل ما لا يعيش إلا في الماء فميتته حلال ، والطافي منه وغيره سواء ، وأما الإمام أحمد فميتته عنده حرام ، فلا بد من ذكاته إلا ما لا دم فيه ، كالسرطان فإنه يباح عنده من غير ذكاة ، واحتج لعدم إباحة ميتة ما يعيش في البر ; بأنه حيوان يعيش في البر له نفس سائلة فلم يبح بغير ذكاة ، كالطير . وحمل الأدلة التي ذكرنا على خصوص ما لا يعيش إلا في البحر . ا ه . ما يعيش في البر من حيوان البحر
وكلب الماء عنده إذا ذكي حلال ، ولا يخفى أن تخصيص الأدلة العامة يحتاج [ ص: 52 ] إلى نص ، فمذهب مالك أظهر دليلا ، والله تعالى أعلم . والشافعي
ومذهب - رحمه الله - أن كل ما يعيش في البر لا يؤكل البحري منه أصلا ; لأنه مستخبث ، وأما ما لا يعيش إلا في البحر وهو الحوت بأنواعه فميتته عنده حلال ، إلا إذا مات حتف أنفه في البحر وطفا على وجه الماء ، فإنه يكره أكله عنده ، الإمام أبي حنيفة ؛ حلال عنده ، بخلاف الطافي على وجه الماء ، وحجته فيما يعيش في البر منه : أنه مستخبث ، والله تعالى يقول : ( فما قتله إنسان ، أو حسر عنه البحر فمات ويحرم عليهم الخبائث ) [ 7 \ 157 ] وحجته في كراهة السمك الطافي ما رواه أبو داود في " سننه " : حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا ، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير ، عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جابر بن عبد الله " ا ه . ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه
قال أبو داود : روى هذا الحديث ، سفيان الثوري وأيوب ، وحماد ، عن أبي الزبير أوقفوه على جابر . وقد أسند هذا الحديث أيضا من وجه ضعيف ، عن ، عن ابن أبي ذئب أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ا ه .
وأجاب الجمهور عن الاحتجاج الأول بأن ألفاظ النصوص عامة في ميتة البحر ، وأن تخصيص النص العام لا بد له من دليل من كتاب أو سنة يدل على التخصيص ، كما تقدم .
ومطلق ادعاء أنه خبيث لا يرد به عموم الأدلة الصريحة في عموم ميتة البحر ، وعن الاحتجاج الثاني بتضعيف حديث جابر المذكور .
قال النووي في " شرح المهذب " ما نصه : وأما الجواب عن حديث جابر الذي احتج به الأولون ، فهو أنه حديث ضعيف باتفاق الحفاظ ، لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شيء ، فكيف وهو معارض بما ذكرناه من دلائل الكتاب والسنة ، وأقاويل الصحابة - رضي الله عنهم - المنتشرة ؟
وهذا الحديث من رواية ، عن يحيى بن سليم الطائفي إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير ، عن جابر .
قال البيهقي : كثير الوهم سيئ الحفظ ، قال : وقد رواه [ ص: 53 ] غيره ، عن يحيى بن سليم الطائفي إسماعيل بن أمية موقوفا على جابر قال : وقال الترمذي : سألت عن هذا الحديث ، فقال : ليس هو بمحفوظ ، ويروى عن البخاري جابر خلافه قال : ولا أعرف لأثر ابن أمية ، عن أبي الزبير شيئا .
قال البيهقي : وقد رواه أيضا يحيى بن أبي أنيسة ، عن أبي الزبير مرفوعا ، ويحيى بن أبي أنيسة متروك لا يحتج به ، قال : ورواه عبد العزيز بن عبيد الله ، عن ، عن وهب بن كيسان جابر مرفوعا ، وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به ، قال : ورواه ، عن بقية بن الوليد ، عن الأوزاعي أبي الزبير ، عن جابر مرفوعا ، ولا يحتج بما ينفرد به ، فكيف بما يخالف ؟ قال : وقول الجماعة من الصحابة على خلاف قول بقية جابر مع ما رويناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في البحر : " " ا ه . هو الطهور ماؤه الحل ميتته
وقال البيهقي في " السنن الكبرى " في باب " من كره أكل الطافي " ما نصه : أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه ، أنبأنا ، حدثنا علي بن عمر الحافظ محمد بن إبراهيم بن فيروز ، حدثنا محمد بن إسماعيل الحساني ، حدثنا ، حدثنا ابن نمير ، عن عبيد الله بن عمر أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - أنه كان يقول : " ما ضرب به البحر ، أو جزر عنه ، أو صيد فيه فكل ، وما مات فيه ، ثم طفا فلا تأكل " وبمعناه رواه أبو أيوب السختياني ، ، وابن جريج ، وزهير بن معاوية ، وغيرهم عن وحماد بن سلمة أبي الزبير ، عن جابر موقوفا ، وعبد الرزاق وعبد الله بن الوليد العدني ، وأبو عاصم ، ، وغيرهم عن ومؤمل بن إسماعيل موقوفا ، وخالفهم سفيان الثوري فرواه عن أبو أحمد الزبيري مرفوعا وهو واهم فيه ، أخبرنا الثوري ، أنبأ أبو الحسن بن عبدان ، حدثنا سليمان بن أحمد اللخمي علي بن إسحاق الأصبهاني ، حدثنا نصر بن علي ، حدثنا ، حدثنا أبو أحمد الزبيري سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " قال إذا طفا السمك على الماء فلا تأكله ، وإذا جزر عنه البحر فكله ، وما كان على حافته فكله سليمان : لم يرفع هذا الحديث عن سفيان إلا أبو أحمد ، ثم ذكر البيهقي بعد هذا الكلام حديث أبي داود الذي قدمنا ، والكلام الذي نقلناه عن النووي .
قال مقيده - عفا الله عنه - فتحصل : أن حديث جابر في النهي عن ذهب كثير من العلماء إلى تضعيفه وعدم الاحتجاج به . وحكى أكل السمك الطافي النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه كما قدمنا عنه ، وحكموا بأن وقفه على جابر أثبت . وإذن فهو قول صحابي معارض بأقوال جماعة من الصحابة منهم : - رضي الله عنه - [ ص: 54 ] وبالآية والحديث المتقدمين . وقد يظهر للناظر أن صناعة علم الحديث والأصول لا تقتضي الحكم برد حديث أبو بكر الصديق جابر المذكور ; لأن رفعه جاء من طرق متعددة وبعضها صحيح ، فرواية أبي داود له مرفوعا التي قدمنا ضعفوها بأن في إسنادها ، وأنه سيئ الحفظ . يحيى بن سليم الطائفي
وقد رواه غيره مرفوعا مع أن المذكور من رجال يحيى بن سليم البخاري ومسلم في " صحيحيهما " ، ورواية له عن أبي أحمد الزبيري مرفوعا عند الثوري البيهقي ، ضعفوها بأنه واهم فيها ، قالوا : خالفه فيها والدارقطني وغيره ، فرووه عن وكيع موقوفا . الثوري
ومعلوم أن ثقة ثبت ، وإن قال أبا أحمد الزبيري المذكور وهو محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمرو بن درهم الأسدي ابن حجر في " التقريب " : إنه قد يخطئ في حديث فهاتان الروايتان برفعه تعضدان برواية الثوري له مرفوعا عند بقية بن الوليد البيهقي وغيره ، وبقية المذكور من رجال مسلم في " صحيحه " وإن تكلم فيه كثير من العلماء . ويعتضد ذلك أيضا برواية عبد العزيز بن عبيد الله له ، عن ، عن وهب بن كيسان أبي الزبير ، عن جابر مرفوعا .
ورواية يحيى بن أبي أنيسة له ، عن أبي الزبير ، عن جابر مرفوعا ، وإن كان عبد العزيز بن عبيد الله ، ويحيى بن أبي أنيسة المذكوران ضعيفين ؛ لاعتضاد روايتهما برواية الثقة ، ويعتضد ذلك أيضا برواية له ، عن ابن أبي ذئب أبي الزبير ، عن جابر مرفوعا عند الترمذي وغيره ، فالظاهر أنه لا ينبغي أن يحكم على حديث جابر المذكور بأنه غير ثابت ; لما رأيت من طرق الرفع التي روي بها وبعضها صحيح ، كرواية أبي أحمد المذكورة ، والرفع زيادة ، وزيادة العدل مقبولة .
قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]
والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ
فالدليل على كراهة أكل السمك الطافي لا يخلو من بعض قوة ، والله تعالى أعلم . والمراد بالسمك الطافي هو الذي يموت في البحر ، فيطفو على وجه الماء وكل ما علا على وجه الماء ، ولم يرسب فيه تسميه العرب طافيا . ومن ذلك قول رضي الله عنه : [ الوافر ] عبد الله بن رواحة
وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمين
ويحكى في نوادر المجانين أن مجنونا مر به جماعة من بني راسب ، وجماعة من بني طفاوة يختصمون في غلام ، فقال لهم المجنون : ألقوا الغلام في البحر فإن رسب فيه فهو من بني راسب ، وإن طفا على وجهه فهو من بني طفاوة .
وقال في " صحيحه " باب قول الله تعالى : ( البخاري أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم ) [ 5 \ 96 ] . قال عمر : صيده ما اصطيد ، وطعامه ما رمى به .
وقال أبو بكر : الطافي حلال ، وقال : طعامه ميتته إلا ما قذرت منها ، والجري لا تأكله ابن عباس اليهود ونحن نأكله .
وقال شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم : كل شيء في البحر مذبوح ، وقال عطاء : أما الطير فأرى أن نذبحه .
وقال : قلت ابن جريج لعطاء : قال : نعم ، ثم تلا : ( صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو ؟ هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا ) [ 35 \ 12 ] وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء . وقال : لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم . ولم ير الشعبي الحسن بالسلحفاة بأسا .
وقال : كل من ابن عباس نصراني أو يهودي أو مجوسي . وقال صيد البحر في المري : ذبح الخمر النينان والشمس . انتهى من أبو الدرداء بلفظه . ومعلوم أن البخاري - رحمه الله - لا يعلق بصيغة الجزم إلا ما كان صحيحا ثابتا عنده . البخاري
وقال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " في الكلام على هذه المعلقات التي ذكرها ما نصه : قوله : قال البخاري - " صيده " ما اصطيد ، و " طعامه " ما رمى به . وصله المصنف في " التاريخ " عمر - هو ابن الخطاب من طريق [ ص: 56 ] وعبد بن حميد ، عن أبيه ، عن عمر بن أبي سلمة قال : لما قدمت أبي هريرة البحرين سألني أهلها عما قذف البحر ؟ فأمرتهم أن يأكلوه ، فلما قدمت على عمر فذكر قصة قال : فقال عمر : قال الله تعالى في كتابه : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) [ 5 \ 96 ] فصيده : ما صيد ، وطعامه : ما قذف به . قوله : وقال - : الطافي حلال ، وصله أبو بكر - هو الصديق ، أبو بكر بن أبي شيبة والطحاوي من رواية والدارقطني عبد الملك بن أبي بشير ، عن عكرمة ، عن قال : أشهد على ابن عباس أبي بكر أنه قال : السمكة الطافية حلال . زاد : لمن أراد أكله ، وأخرجه الطحاوي ، وكذا الدارقطني ، عبد بن حميد منها . وفي بعضها أشهد على والطبري أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء ، من وجه آخر ، عن وللدارقطني ، عن ابن عباس أبي بكر : أن . الله ذبح لكم ما في البحر فكلوه كله فإنه ذكي
قوله : وقال : طعامه ميتته إلا ما قذرت منها ، وصله ابن عباس من طريق الطبري أبي بكر بن حفص ، عن عكرمة ، عن في قوله تعالى : ( ابن عباس أحل لكم صيد البحر وطعامه ) ، قال طعامه : ميتته . وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر ، عن وذكر صيد البحر : لا تأكل منه طافيا ، في سنده ابن عباس الأجلح وهو لين ، ويوهنه حديث الماضي قبله ، قوله : والجري لا تأكله ابن عباس اليهود ونحن نأكله ، وصله عبد الرزاق ، عن ، عن الثوري ، عن عبد الكريم الجزري عكرمة ، عن أنه سئل عن الجري فقال : لا بأس به ، إنما هو شيء كرهته ابن عباس اليهود . وأخرجه ، عن ابن أبي شيبة ، عن وكيع به ، وقال في روايته : سألت الثوري عن الجري ، فقال : لا بأس به ; إنما تحرمه ابن عباس اليهود ونحن نأكله ، وهذا على شرط الصحيح . وأخرج عن علي وطائفة نحوه . والجري بفتح الجيم قال ابن التين : وفي نسخة بالكسر ، وهو ضبط الصحاح ، وكسر الراء الثقيلة قال : ويقال له أيضا : الجريت وهو ما لا قشر له .
وقال ابن حبيب من المالكية : إنما أكرهه ; لأنه يقال : إنه من الممسوخ . وقال الأزهري : الجريت نوع من السمك يشبه الحيات . وقيل : سمك لا قشر له ، ويقال له أيضا : المرماهي ، والسلور مثله . وقال الخطابي : هو ضرب من السمك يشبه الحيات ، وقال غيره : نوع عريض الوسط ، دقيق الطرفين . قوله : وقال شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم : كل شيء في البحر مذبوح ، وقال عطاء : أما الطير فأرى أن تذبحه ، وصله المصنف في " التاريخ " وابن منده في [ ص: 57 ] " المعرفة " من رواية ، عن ابن جريج ، عمرو بن دينار وأبي الزبير أنهما سمعا شريحا صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : كل شيء في البحر مذبوح . قال : فذكرت ذلك لعطاء . فقال : أما الطير فأرى أن تذبحه ، وأخرجه الدارقطني وأبو نعيم في " الصحابة " مرفوعا من حديث شريح ، والموقوف أصح .
وأخرجه في الأطعمة من طريق ابن أبي عاصم ، سمعت شيخا كبيرا يحلف بالله ما في البحر دابة إلا قد ذبحها الله لبني آدم ، وأخرج عمرو بن دينار من حديث الدارقطني رفعه : " عبد الله بن سرجس " وفي سنده ضعف ، أن الله قد ذبح كل ما في البحر لبني آدم من حديث والطبراني رفعه نحوه ، وسنده ضعيف أيضا ، وأخرج ابن عمر عبد الرزاق بسندين جيدين عن عمر ، ثم عن علي : الحوت ذكي كله ، قوله ، وقال : قلت ابن جريج لعطاء : صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو ؟ قال : نعم ، ثم تلا : ( هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا ) [ 35 \ 12 ] ، وصله عبد الرزاق في " التفسير " عن بهذا سواء ، وأخرجه ابن جريج في كتاب " الفاكهي مكة " من رواية ، عن عبد المجيد بن أبي رواد أتم من هذا ، وفيه : وسألته عن حيتان ابن جريج بركة القشيري - وهي بئر عظيمة في الحرم - أتصاد ؟ قال : نعم ، وسألته عن ابن الماء وأشباهه أصيد بحر أم صيد بر ؟ فقال : حيث يكون أكثر فهو صيد .
وقلات : بكسر القاف وتخفيف اللام وآخره مثناة ، ووقع في رواية مثلثة . والصواب الأول : جمع قلت بفتح أوله مثل : بحر وبحار ، وهو النقرة في الصخرة ، يستنقع فيها الماء . قوله : وركب الأصيلي الحسن على سرج من جلود ، وقال كلاب الماء : لو أن أهلي أكلوا الشعبي لأطعمتهم ، ولم ير الضفادع الحسن بأسا . أما قول بالسلحفاة الحسن الأول فقيل إنه ابن علي ، وقيل : البصري ، ويؤيد الأول أنه وقع في رواية : وركب الحسن - عليه السلام - وقوله : على سرج من جلود ، أي : متخذ من جلود كلاب الماء . وأما قول : فالضفادع جمع ضفدع ، بكسر أوله وفتح الدال وبكسرها أيضا ، وحكي ضم أوله مع فتح الدال ، والضفادي بغير عين لغة فيه ، قال الشعبي ابن التين : لم يبين هل تذكى أم لا ؟ ومذهب الشعبي مالك أنها تؤكل بغير تذكية ، ومنهم من فصل بين ما مأواه الماء وغيره ، وعن الحنفية ورواية عن : لا بد من التذكية . الشافعي