هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم المزدادين كفرا لا يقبل الله توبتهم إذا تابوا لأنه عبر بلن الدالة على نفي الفعل في المستقبل مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن الله يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقوله : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ 42 \ 25 ] ، وقوله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل [ 6 \ 158 ] .
فإنه يدل بمفهومه على أن التوبة قبل إتيان بعض الآيات مقبولة من كل تائب ، وصرح تعالى بدخول المرتدين في قبول التوبة قبل هذه الآية مباشرة في قوله تعالى : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق - إلى قوله - إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ 3 \ 86 - 89 ] .
فالاستثناء في قوله تعالى إلا الذين تابوا راجع إلى المرتدين بعد الإيمان المستحقين للعذاب واللعنة إن لم يتوبوا ويدل له أيضا قوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر الآية [ 2 \ 217 ] .
لأن مفهومه أنه تاب قبل الموت قبلت توبته مطلقا ، والجواب من أربعة أوجه :
الأول : وهو اختيار ونقله عن ابن جرير رفيع أبي العالية أن المعنى : إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : وأولئك هم الضالون لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهما على ارتكاب الضلال وعدم قبولها حينئذ ظاهر .
[ ص: 237 ] الثاني : وهو أقربها عندي ، أن قوله تعالى : لن تقبل توبتهم يعني إذ تابوا عند حضور الموت ، ويدل لهذا الوجه أمران :
الأول : أنه تعالى بين في مواضع أخر أن الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت فيتوب في ذلك الوقت ، كقوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [ 4 18 ] .
فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء .
وقوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية [ 40 \ 85 ] .
وقوله في فرعون : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 91 ] .
فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيد بقيد تأخير التوبة إلى حضور الموت لوجوب حمل المطلق على المقيد ، كما تقرر في الأصول .
والثاني : أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله : ثم ازدادوا كفرا فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها ونقل هذا الوجه الثاني الذي هو التقييد بحضور الموت عن ابن جرير الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي .
الثالث : أن معنى لن تقبل توبتهم أي إيمانهم الأول ، لبطلانه بالردة بعده ، ونقل خرجه ابن جرير هذا القول عن ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن . ابن جريح
الرابع : أن المراد بقوله : لن تقبل توبتهم أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 137 ] .
فإن قوله تعالى : ولا ليهديهم سبيلا ، يدل على أن عدم غفرانه لهم لعدم توفيقهم للتوبة والهدى .
كقوله : إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم [ 4 \ 168 ] .
[ ص: 238 ] وكقوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون الآية [ 10 \ 96 ] .
ونظير الآية على هذا القول قوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ 74 \ 48 ] ، أي لا شفاعة لهم أصلا حتى تنفعهم ، وقوله تعالى : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية [ 23 \ 117 ] .
لأن الإله الآخر لا يمكن وجوده أصلا ، حتى يقوم عليه برهان أو لا يقوم عليه .
قال مقيده عفا الله عنه : مثل هذا الوجه الأخير هو المعروف عند النظار ، بقولهم السالبة لا تقضي بوجود الموضوع ، وإيضاحه أن القضية السالبة عندهم صادقة في صورتين ، لأن المقصود منها عدم اتصاف الموضوع بالمحمول وعدم اتصافه به يتحقق في صورتين :
الأولى : أن يكون الموضوع موجودا إلا أن المحمول منتف عنه ، كقولك : ليس الإنسان بحجر ، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه .
والثانية : أن يكون الموضوع من أصله معدوما لأنه إذا عدم تحقق عدم اتصافه بالمحمول الموجودي ، لأن العدم لا يتصف بالوجود كقولك : لا نظير لله يستحق العبادة ، فإن الموضوع الذي هو النظير ليس مستحيلا من أصله ، وإذا تحقق عدمه تحقق انتفاء اتصافه باستحقاق العبادة ضرورة وهذا النوع من أساليب اللغة العربية ، ومن شواهده قول امرئ القيس :
على لاحب لا يهتدي بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا
لأن المعنى على لاحب لا منار له أصلا حتى يهتدى به .وقول الآخر :
لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر
وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
إلا أن أحدهما يقول هو موجود في هذا الفرع .
والثاني : يقول : لا ومثاله الاختلاف في قطع النباش ، فإن رحمه الله تعالى يوافق الجمهور على أن السرقة هي مناط القطع ، ولكنه يقول لم يتحقق المناط في النباش لأنه غير سارق ، بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط من غير حرز ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن مراد القائلين أنه لا تقبل توبته ، أن أفعاله دالة على خبث نيته وفساد عقيدته وأنه ليس تائبا في الباطل توبة نصوحا فهم موافقون على التوبة النصوح مناط القبول كما ذكرنا ، ولكن يقولون أفعال هذا الخبيث دلت على عدم تحقيق المناط . أبا حنيفة
ومن هنا اختلف العلماء في أعني المستسر بالكفر ، فمن قائل لا تقبل توبته ومن قائل تقبل ومن مفرق بين إتيانه تائبا قبل الاطلاع عليه وبين الاطلاع على نفاقه قبل التوبة ، كما هو معروف في فروع مذاهب الأئمة الأربعة لأن الذين يقولون يقتل ولا تقبل توبته يرون أن نفاقه الباطل دليل على أن توبته تقية لا حقيقة واستدلوا بقوله تعالى : توبة الزنديق إلا الذين تابوا وأصلحوا [ 2 160 ] .
[ ص: 240 ] فقالوا : الإصلاح شرط والزنديق لا يطلع على إصلاحه ، لأن الفساد إنما أتى مما أسره فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه ، والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقا أظهر وأقوى ، كقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه : ، وقوله للذي ساره في قتل رجل قال : هلا شققت عن قلبه ، وقوله أليس يصلي ؟ قال : بلى . قال : أولئك الذين نهيت عن قتلهم لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة : وهذه الأحاديث في الصحيح ويدلك لذلك أيضا إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر ، والله يتولى السرائر . إني لم أومر بأن أنقب عن قلوب الناس
وقد نص تعالى على أن الأيمان الكاذبة جنة للمنافقين في الأحكام الدنيوية بقوله : اتخذوا أيمانهم جنة [ 58 \ 16 ] ، وقوله : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس [ 9 \ 95 ] . وقوله : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم الآية [ 9 \ 56 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وما استدل به بعضهم من قتل ابن مسعود لابن النواحة صاحب مسيلمة فيجاب عنه بأنه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا لمسيلمة : فقتله لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم . ابن مسعود
فقد روي أنه قتله لذلك فإن قيل هذه الآية الدالة على عدم قبول توبتهم أخص من غيرها لأن فيها القيد بالردة وازدياد الكفر ، فالذي تكررت منه الردة أخص من مطلق المرتد ، والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص لأن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص .
فالجواب أن القرآن دل على قبول ، إذا أخلص في الإنابة إلى الله ، ووجه دلالة القرآن على ذلك أنه تعالى قال : توبة من تكرر منه الكفر إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 37 ] .
ثم بين أن المنافقين داخلون فيهم بقوله تعالى : بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الآية [ 4 \ 138 ] .
ودلالة الاقتران وإن ضعفها الأصوليون فقد صححتها جماعة من المحققين ، ولا سيما إذا اعتضدت بالأدلة القرينة عليها كما هنا لقوله تعالى : [ ص: 241 ] لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما فيه الدلالة الواضحة على دخولهم في المراد بالآية ، بل كونها في خصوصهم قال به جماعة من العلماء ، فإذا حققت ذلك ، فاعلم أن الله تعالى نص على أن من أخلص التوبة من المنافقين تاب الله عليه بقوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما [ 4 145 - 147 ] .
وقد كان مخشي بن حمير رضي الله عنه من المنافقين الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [ 9 \ 65 - 66 ] .
فتاب إلى الله بإخلاص ، فتاب الله عليه وأنزل الله فيه : إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة الآية [ 9 \ 66 ] ، فتحصل أن القائلين بعدم قبول توبة من تكررت منه الردة ، يعنون الأحكام الدنيوية ولا يخالفون في أنه إذا أخلص التوبة إلى الله قبلها منه ، لأن اختلافهم في تحقيق المناط كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .