تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان زينة السماء بالمصابيح ، وجعلها رجوما للشياطين بيانا كاملا عند قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين [ 15 \ 16 - 18 ] .
وقد ذكر طرفا من هذا البحث في سورة " الفرقان " لا بد من ضمه إلى هذا المبحث هناك ; لارتباط بعضها ببعض .
تنبيه
فقد ظهرت تلك المخترعات الحديثة ، ونادى أصحاب النظريات الجديدة والناس ينقسمون إلى قسمين : قسم يبادر بالإنكار ، وآخر يسارع للتصديق ، وقد يستدل كل من الفريقين بنصوص من القرآن أو السنة . ولعل من الأولى أن يقال : إن النظريات الحديثة قسمان : نظرية تتعارض مع صريح القرآن ، فهذه مردودة بلا نزاع كنظرية ثبوت الشمس مع قوله تعالى : والشمس تجري لمستقر لها [ 36 \ 38 ] .
ونظرية لا تتعارض مع نص القرآن ولم ينص عليها ، وليس عندنا من وسائل العلم ما يؤيدها ولا يرفضها . فالأولى أن يكون موقفنا موقف التثبت ولا نبادر بحكم قاطع إيجابا أو نفيا ، وذلك أخذا من قضية الهدهد وسبأ مع نبي الله سليمان لما جاء يخبرهم ، وكان - عليه السلام - لم يعلم عنهم شيئا فلم يكذب الخبر بكونه من الهدهد ولم يصدقه ; لأنه لم يعلم عنهم سابقا ، مع أنه وصف حالهم وصفا دقيقا .
وكان موقفه - عليه السلام - موقف التثبت مع ما لديه من إمكانيات الكشف والتحقيق من [ ص: 230 ] الريح ، والطير ، والجن ، فقال للمخبر وهو الهدهد : سننظر ، أصدقت أم كنت من الكاذبين .
ونحن في هذه الآونة لسنا أشد إمكانيات من نبي الله سليمان آنذاك ، وليس المخبرون عن مثل هذه النظريات أقل من الهدهد ، فليكن موقفنا على الأقل موقف من سينظر أيصدق الخبر أم يظهر كذبه ؟ والغرض من هذا التنبيه هو ألا نحمل لفظ القرآن فيما هو ليس صريحا فيه ما لا يحتمله ، ثم يظهر كذب النظرية أو صدقها ، فنجعل القرآن في معرض المقارنة مع النظريات الحديثة ، والقرآن فوق ذلك كله : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 42 ] .
قوله تعالى : ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير .
المنصوص هنا إرجاع البصر كرتين ، ولكن حقيقة النظر أربع مرات .
الأولى في قوله : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] .
والثانية في قوله : فارجع البصر هل ترى من فطور [ 67 \ 3 ] .
والثالثة والرابعة في قوله : ثم ارجع البصر كرتين [ 67 \ 4 ] .
وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد ، والحسير : العيي الكليل العاجز المتقطع دون غاية ، كما في قول الشاعر :
من مد طرفا إلى ما فوق غايته ارتد خسآن من الطرف قد حسرا
قال القرطبي : يقال قد حسر بصره يحسر حسورا ، أي : كل وانقطع نظره من طول مدى ، وما أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضا .
قال :
نظرت إليها بالمحصب من منى فعاد إلي الطرف وهو حسير
قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا .
فالدنيا تأنيث الأدنى أي : السماء الموالية للأرض ، ومفهومه أن بقية السماوات ليست فيها مصابيح التي هي النجوم والكواكب كما قال : بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] . ويدل لهذا [ ص: 231 ] المفهوم ما جاء به عن قتادة : أن الله جعل النجوم لثلاثة أمور : أمران هنا ، وهما : زينة السماء الدنيا ورجوما للشياطين . والثالثة علامات واهتداء في البر والبحر ، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا . لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى ; لأنها أجرام محفوظة ، كما في حديث الإسراء : " لها أبواب وتطرق ولا يدخل منها إلا بإذن " .
وكقوله : إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء [ 7 \ 40 ] .
وكذلك ليس هناك من يحتاج إلى اهتداء بها في سيره ; لأن الملائكة كل في وضعه الذي أوجده الله عليه ، ولأن الزينة لن ترى لوجود جرم السماء الدنيا ، فثبت أن النجوم خاصة بالسماء الدنيا .
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد [ 37 \ 6 - 7 ] .
ومفهوم الدنيا عدم وجودها فيما بعدها ، ولا وجود للشيطان في غير السماء الدنيا .