تنبيه
مجيء " قدمت " بصيغة الماضي حث على ؛ لأنه لم يملك إلا ما قدم في الماضي ، والمستقبل ليس بيده ، ولا يدري ما يكون فيه : الإسراع في العمل ، وعدم التأخير وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [ 31 \ 34 ] ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم : ، وقوله تعالى : " حجوا قبل ألا تحجوا " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم [ 3 \ 133 ] ، وقوله تعالى : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون [ 59 \ 19 ] .
بعد الحث على تقوى الله ، وعلى الاجتهاد في تقديم العمل الصالح ليوم غد جاء التحذير في هذه الآية من النسيان والترك وألا يكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، ولم يبين هنا من هم الذين حذر من أن يكونوا مثلهم في هذا النسيان ، وما هو النسيان والإنساء المذكوران هنا .
وقد نص القرآن على أن الذين نسوا الله هم المنافقون في قوله تعالى في سورة " التوبة " : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون [ 9 \ 67 ] ، وهذا عين الوصف الذي وصفوا به في سورة " الحشر " وقوله تعالى : فنسيهم أي : أنساهم أنفسهم ؛ لأن الله تعالى لا ينسى : لا يضل ربي ولا ينسى [ 2 \ 52 ] ، وما كان ربك نسيا [ ص: 55 ] [ 19 \ 64 ] .
وقد جاء أيضا اليهود والنصارى والمشركين بالنسيان في الجملة ، ففي وصف كل من اليهود يقول تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به [ 5 \ 13 ] .
وفي النصارى يقول تعالى : ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به [ 5 \ 14 ] .
وفي المشركين يقول تعالى : الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، فيكون التحذير منصبا أصالة على المنافقين وشاملا معهم كل تلك الطوائف لاشتراكهم جميعا في أصل النسيان .
أما النسيان هنا ، فهو بمعنى الترك ، وقد نص عليه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند الكلام على قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي [ 20 \ 126 ] .
فذكر وجهين ، وقال : العرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدا ، ومنه قوله تعالى : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] .
فالمراد من هذه الآية الترك قصدا .
وكقوله : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] .
وقوله : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم الآية [ 59 \ 19 ] ، انتهى .
أما النسيان الذي هو ضد الذكر ، وهو الترك عن غير قصد ، فليس داخلا هنا ؛ لأن هذه الأمة قد أعفيت من المؤاخذة عليه ، كما في قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية [ 2 \ 286 ] .
وفي الحديث أن الله تعالى قال : أي : عندما تلاها صلى الله عليه وسلم . " قد فعلت ، قد فعلت "
[ ص: 56 ] وجاء في السنة : " إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .
وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - هذا النوع في دفع إيهام الاضطراب على الجواب عن الإشكال الموجود في نسيان آدم ، هل كان عن قصد أو عن غير قصد ، وإذا كان عن غير قصد فكيف يؤاخذ ؟ وبين خصائص هذه الأمة في هذا الباب - رحمة الله تعالى عليه - فليرجع إليه .
وإذا تبين المراد بالتحذير من مشابهتهم في النسيان ، وتبين معنى النسيان ، فكيف أنساهم الله أنفسهم ؟ وهذه مقتطفات من أقوال المفسرين في هذا المقام لزيادة البيان :
قال ابن كثير رحمه الله : لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح ؛ فإن الجزاء من جنس العمل .
وقال القرطبي : نسوا الله أي : تركوا أمره ، فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيرا .
وقال أبو حيان : الذين نسوا الله هم الكفار تركوا عبادة الله ، وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى فأنساهم أنفسهم حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب ، وهذا من المجازات على الذنب بالذنب . . . إلخ .
وقال : تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم ، وهذا من باب الجزاء من جنس العمل . ابن جرير
أما الزمخشري ، فقد أدخلا في هذا المعنى مبحثا كلاميا حيث قالا في معنى : نسوا الله ، كما قال الجمهور ، أما في معنى : والفخر الرازي فأنساهم أنفسهم ، فذكرا وجهين : الأول : كالجمهور ، والثاني : بمعنى أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم كقوله تعالى : لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [ 14 \ 43 ] ، وقوله : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ 22 \ 2 ] ا هـ .
وهذا الوجه الثاني لا يسلم لهما ؛ لأن ما ذهبا إليه عام في جميع الخلائق يوم القيامة ، وليس خاصا بمن نسي الله كما قال تعالى في نفس الآية التي استدلا بها : وترى الناس سكارى [ ص: 57 ] فهو عام في جميع الناس .
وقوله : يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت [ 22 \ 2 ] ، والذهول أخو النسيان ، وهو هنا عام في كل مرضعة : وتضع كل ذات حمل حملها [ 22 \ 2 ] وهو أيضا عام ، وذلك من ، ولعل الحامل لهما على إيراد هذا الوجه مع بيان ضعفه ، هو فرارهم من نسبة الإنساء إلى الله ، وفيه شبهة اعتزال كما لا يخفى . شدة الهول يوم القيامة
ولوجود إسناد الإنساء إلى الشيطان في بعض المواضع كما في قصة صاحب موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [ 18 \ 63 ] ، وكما في قوله تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] وقوله : عن صاحب يوسف : فأنساه الشيطان ذكر ربه [ 12 \ 42 ] .
ولكن الصحيح عند علماء السلف أن حقيقة النسيان والإنساء والتذكير والتذكر كحقيقة أي معنى من المعاني ، وأنها كلها من الله : قل كل من عند الله [ 4 \ 78 ] ، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا [ 9 \ 51 ] ، فما نسب إلى الشيطان فهو بتسليط من الله كما في قوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 \ 102 ] ، ثم قال : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ 2 \ 102 ] فيكون إسناد الإنساء إلى الشيطان من باب قول الخليل عليه السلام : وإذا مرضت فهو يشفين [ 26 \ 80 ] تأدبا في الخطاب مع الله تعالى ، ولكن هذا المقام مقام إخبار من الله عما أوقعه بهؤلاء الذين نسوا ما أمرهم به فأنساهم ، فأوقع عليهم النسيان لأنفسهم مجازاة لهم على أعمالهم ، فكان نسبته إلى الله وبإخبار من الله عين الحق وهو أقوى من أسلوب المقابلة : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] .
تنبيهان
الأول : جاء في مثل هذا السياق سواء بسواء قوله تعالى : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 45 \ 34 ] .
وقوله : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم [ 32 \ 14 ] .
وقوله : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] ، وفي هذا نسبة النسيان إلى الله تعالى فوقع [ ص: 58 ] الإشكال مع قوله تعالى : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] وقوله : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] .
وقد أجاب الشيخ - رحمة الله عليه - عن ذلك في دفع إيهام الاضطراب ، بأن النسيان المثبت بمعنى الترك كما تقدم ، والمنفي عنه تعالى هو الذي بمعنى السهو ؛ لأنه محال على الله تعالى .
التنبيه الثاني : مما نص عليه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في مقدمة الأضواء أن من أنواع البيان أن يوجد في الآية اختلاف للعلماء وتوجد فيها قرينة دالة على المعنى المراد ، وهو موجود هنا في هذه المسألة وهو قوله تعالى : اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 45 \ 34 ] ، وهذا القول يكون يوم القيامة ، وقد عبر عن النسيان بصيغة المضارع وهي للحال أو الاستقبال ، ولا يكون النسيان المخبر عنه في الحال إلا عن قصد وإرادة ، وكذلك لا يخبر عن نسيان سيكون في المستقبل إلا عن قصد وإرادة ، وهذا في النسيان بمعنى الترك عن قصد ، أما الذي بمعنى السهو فيكون بدون قصد ولا إرادة ، فلا يصح التعبير عنه بصيغة المضارع ولا الإخبار بإيقاعه عليهم في المستقبل ، فصح أن كل نسيان نسب إلى الله فهو بمعنى الترك ، وكان قوله تعالى : فأنساهم أنفسهم [ 59 \ 19 ] مفسرا ومبينا لمعنى : اليوم ننساكم [ 45 \ 34 ] ولقوله إنا نسيناكم [ 32 \ 14 ] ، والعلم عند الله تعالى .