[ ص: 511 ] قد قدمنا أن الأظهر عندنا أن قوله : إذا رجت بدل من قوله : إذا وقعت الواقعة ، والرج : التحريك الشديد ، وما دلت عليه هذه الآية من أن جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : الأرض يوم القيامة تحرك تحريكا شديدا إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : إن زلزلة الساعة شيء عظيم [ 99 \ 1 ] . وقوله تعالى : وبست الجبال بسا في معناه . لأهل العلم أوجه متقاربة ، لا يكذب بعضها بعضا وكلها حق ، وكلها يشهد له قرآن .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها أوجه كلها حق وكلها يشهد له قرآن ، فنذكر جميع الأوجه وأدلتها القرآنية .
الوجه الأول : قال أكثر المفسرين : وبست الجبال بسا أي فتتت تفتيتا حتى صارت كالبسيسة ، وهي دقيق ملتوت بسمن ، ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقا عنده فخاف أن يعجل عنه ، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقا ملتوتا ، وهو البسيسة :
لا تخبزا خبزا وبسابسا ولا تطيلا بمناخ حبسا
وهذا الوجه يشهد له قرآن كقوله تعالى : يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا [ 73 \ 14 ] ، فقوله : كثيبا مهيلا أي رملا متهايلا ، ومنه قول امرئ القيس :ويوما على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل
وما دلت عليه هذه الآيات من أنها تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد الذي هو كلين الدقيق والرمل المتهايل . يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن ، كقوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 \ 5 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 512 ] يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن [ 70 \ 8 - 9 ] ، وأصل العهن أخص من مطلق الصوف لأنه الصوف المصبوغ خاصة . ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :
كأن فتاة العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم
منبثا أي متفرقا ، ووصفها بالهباء المنبث أنسب لكون البس بمعنى التفتيت والطحن .
الوجه الثاني : أن معنى قوله : وبست الجبال بسا أي سيرت بين السماء والأرض ، وعلى هذا فالمراد ببسها سوقها وتسييرها من قول العرب : بسست الإبل أبسها ، بضم الباء وأبسستها أبسها بضم الهمزة وكسر الباء ، لغتان بمعنى سقتها ، ومنه حديث : " اليمن والشام ، والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " . يخرج أقوام من المدينة إلى
وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : ويوم نسير الجبال الآية [ 18 \ 47 ] ، وقوله : وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 10 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [ 27 \ 88 ] .
الوجه الثالث : أن معنى قوله : وبست الجبال بسا نزعت من أماكنها وقلعت ، وقد أوضحنا أن هذا الوجه راجع للوجه الأول مع الإيضاح التام لأحوال ، وأطوارها ، بالآيات القرآنية ، وفي سورة " طه " في الكلام على قوله تعالى : الجبال يوم القيامة ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [ 20 \ 105 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فكانت هباء منبثا كقوله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، والهباء إذا انبث أي تفرق واضمحل وصار لا شيء ، والسراب قد قال الله تعالى فيه : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] .