الأول : أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ولم يستوعب وقت الجواز وهذا جار في كل الصلوات ما سوى الظهر .
والثاني : أنه متقدم في أول الأمر بمكة وهذه الأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في آخر الأمر بالمدينة فوجب اعتمادها .
والثالث : أن هذه الأحاديث أصح إسنادا من حديث بيان جبريل فوجب تقديمها ، قاله الشوكاني رحمه الله ولا خلاف بين العلماء في أفضلية ومذهب الإمام تقديم صلاة المغرب عند أول وقتها مالك رحمه الله امتداد الوقت الضروري للمغرب بالاشتراك مع العشاء إلى الفجر .
وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : روينا عن ابن عباس في المرأة تطهر قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء ، والظاهر أن حجة هذا القول بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى طلوع الفجر كما هو مذهب وعبد الرحمن بن عوف مالك ما ثبت في الصحيح أيضا من أنه - صلى الله عليه وسلم - " بالمدينة من غير خوف ولا سفر " ، فقد روى الشيخان في " صحيحيهما " عن جمع بين المغرب والعشاء رضي الله عنهما ابن عباس بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء " ومعناه : أنه يصلي السبع جميعا في وقت واحد ، والثمان كذلك كما بينته رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " صلى في باب " وقت المغرب " عن البخاري قال : ابن عباس " . صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " سبعا جميعا وثمانيا جميعا
وفي لفظ لمسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا : " ابن ماجه بالمدينة من غير خوف ولا مطر " ، قيل جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء : ما [ ص: 287 ] أراد بذلك ؟ قال : أراد ألا يحرج أمته ، وبه تعلم أن قول لابن عباس مالك في [ الموطأ ] لعل ذلك لعلة المطر غير صحيح .
وفي لفظ أكثر الروايات من غير خوف ولا سفر . وقد قدمنا أن هذا الجمع يجب حمله على الجمع الصوري لما تقرر في الأصول من أن الجمع واجب إذا أمكن ، وبهذا الحمل تنتظم الأحاديث ولا يكون بينها خلاف ، ومما يدل على أن الحمل المذكور متعين ، ما أخرجه النسائي بلفظ " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعا ، أخر الظهر وعجل العصر ، وأخر المغرب وعجل العشاء ابن عباس " ، فهذا عن راوي حديث الجمع قد صرح بأن ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري ، فرواية ابن عباس هذه صريحة في محل النزاع مبينة للإجمال الواقع في الجمع المذكور . النسائي
وقد تقرر في الأصول أن البيان بما سنده دون سند المبين جائز عند جماهير الأصوليين ، وكذلك المحدثون وأشار إليه في " مراقي السعود " بقوله في مبحث البيان : [ الرجز ]
وبين القاصر من حيث السند أو الدلالة على ما يعتمد
ويؤيده ما رواه الشيخان عن عمر وابن دينار ، أنه قال : " يا أبا الشعثاء ، أظنه أخر الظهر وعجل العصر ، وأخر المغرب وعجل العشاء . قال : وأنا أظنه " ، وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ، والراوي أدرى بما روى من غيره ; لأنه قد يعلم من سياق الكلام قرائن لا يعلمها الغائب ، فإن قيل ثبت في " صحيح ابن عباس " وغيره أن البخاري قال أيوب السختياني لأبي الشعثاء : لعل ذلك الجمع في ليلة مطيرة ، فقال أبو الشعثاء : عسى .
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم ، أنا لم ندع جزم أبي الشعثاء بذلك ورواية الشيخين عنه بالظن ، والظن لا ينافي احتمال النقيض وذلك النقيض المحتمل هو مراده بعسى ، والله تعالى أعلم .
ومما يؤيده الجمع المذكور على الجمع الصوري أن ابن مسعود رضي الله عنهم كلاهما ممن روى عنه الجمع المذكور وابن عمر بالمدينة مع أن كلا منهما روى عنه ما يدل على أن المراد بالجمع المذكور الجمع الصوري .
أما فقد رواه عنه ابن مسعود ، كما ذكره الطبراني ابن حجر في " فتح الباري " . [ ص: 288 ] وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : رواه عن الطبراني في الكبير والأوسط كما ذكره ابن مسعود الهيثمي في " مجمع الزوائد " بلفظ : " " ، مع أن جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ، فقيل له في ذلك ، فقال : صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي روى عنه ابن مسعود مالك في " الموطأ " والبخاري وأبو داود ، أنه قال : " والنسائي " ، فنفي ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها للجمع المذكور يدل على أن الجمع المروي عنه الجمع الصوري ; لأن كلا من الصلاتين في وقتها وإلا لكان قوله متناقضا والجمع واجب متى ما أمكن . ابن مسعود
وأما فقد روى عنه الجمع المذكور ابن عمر بالمدينة عبد الرزاق كما قاله الشوكاني أيضا مع أنه روى عنه أنه قال : " ابن جرير " ، قاله خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء فيجمع بينهما الشوكاني أيضا ، وهذا هو الجمع الصوري ، فهذه الروايات معينة للمراد بلفظ جمع .
واعلم أن لفظة جمع فعل في سياق الإثبات ، وقد قرر أئمة الأصول أن الفعل المثبت لا يكون عاما في أقسامه .
قال في " مختصره الأصولي " في مبحث العام ، ما نصه : الفعل المثبت لا يكون عاما في أقسامه مثل صلى داخل الكعبة فلا يعم الفرض والنفل إلى أن قال : وكان يجمع بين الصلاتين لا يعم وقتيهما وأما تكرر الفعل فمستفاد من قول الراوي : كان يجمع كقولهم كان ابن الحاجب حاتم يكرم الضيف . . . الخ .
قال شارحه العضد ما نصه : وإذا قال كان يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء فلا يعم جمعهما بالتقديم في وقت الأولى ، والتأخير في وقت الثانية ، وعمومه في الزمان لا يدل عليه أيضا ، وربما توهم ذلك من قوله كان يفعل ، فإنه يفهم منه التكرار ، كما إذا قيل : كان حاتم يكرم الضيف وهو ليس مما ذكرناه في شيء ; لأنه لا يفهم من الفعل ، وهو يجمع . بل من قول الراوي ، وهو كان ، حتى لو قال : جمع لزال التوهم ، انتهى محل الغرض منه بلفظه بحذف يسير لما لا حاجة إليه في المراد عندنا فقوله : حتى لو قال : جمع زال التوهم ، يدل على أن قول في الحديث المذكور جمع لا يتوهم فيه العموم ، وإذن فلا تتعين صورة من صور الجمع ، إلا بدليل [ ص: 289 ] منفصل . ابن عباس
وقد قدمنا الدليل على أن المراد الجمع الصوري .
وقال صاحب " جمع الجوامع " عاطفا على ما لا يفيد العموم نصه : والفعل المثبت ، ونحو كان يجمع في السفر .
قال شارحه صاحب " الضياء اللامع " ما نصه : ونحو كان يجمع في السفر ، أي : بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، لا عموم له أيضا ; لأنه فعل في سياق الثبوت فلا يعم جمعهما بالتقديم في وقت الأولى ، والتأخير إلى وقت الثانية ، بهذا فسر الرهوني كلام إلى أن قال : وإنما خص المصنف هذا الفعل الأخير بالذكر مع كونه فعلا في سياق الثبوت ; لأن في كان معنى زائدا ، وهو اقتضاؤها مع المضارع التكرار عرفا فيتوهم منها العموم نحو كان ابن الحاجب حاتم يكرم الضيفان .
وبهذا صرح الفهري والرهوني وذكر ولي الدين عن الإمام في " المحصول " أنها لا تقتضي التكرار عرفا ولا لغة .