اعلم أن هذه المسألة قد بيناها في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وسنذكر هنا كلامنا المذكور فيه تتميما للفائدة .
ففي " دفع إيهام الاضطراب " ، ما نصه : قوله تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، لا يخفى أن ترتيبه تعالى معا يفهم منه أن الكفارة لا تلزم إلا بالظهار والعود معا ، وقوله تعالى : الكفارة بالعتق على الظهار والعود من قبل أن يتماسا صريح في أن التكفير يلزم كونه من قبل العود إلى المسيس .
اعلم أولا : أن ما رجحه من قول ابن حزم ، وحكاه داود الظاهري عن ابن عبد البر بكير بن الأشج وفرقة من أهل الكلام ، وقال به والفراء شعبة : من أن معنى : ثم يعودون لما قالوا هو عودهم إلى لفظ الظهار ، فيكررونه مرة أخرى قول باطل ، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار ، هل كرر زوجها صيغة الظهار أو لا ؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال ، كما تقدم مرارا .
والتحقيق : أن الكفارة ومنع الجماع قبلها ، لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار ، وما زعمه بعضهم أيضا من أن الكلام فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، سالمين من الإثم بسبب الكفارة غير صحيح أيضا ، لما تقرر في الأصول من وجوب الحمل على بقاء الترتيب ، إلا لدليل . وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :
كذاك تريب لإيجاب العمل بما له الرجحان مما يحتمل
[ ص: 191 ] وسنذكر إن شاء الله الجواب عن هذا الإشكال على مذاهب الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - وأرضاهم .
فنقول وبالله تعالى نستعين : عند معنى العود مالك فيه قولان ، تؤولت المدونة على كل واحد منهما ، وكلاهما مرجح .
الأول : أنه العزم على الجماع فقط .
الثاني : أنه العزم على الجماع وإمساك الزوجة معا ، وعلى كلا القولين فلا إشكال في الآية .
لأن المعنى حينئذ : والذين يظاهرون من نسائهم ، ثم يعزمون على الجماع أو عليه مع الإمساك ، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فلا منافاة بين العزم على الجماع ، أو عليه مع الإمساك ، وبين الإعتاق قبل المسيس .
وغاية ما يلزم على هذا القول حذف الإرادة ، وهو واقع في القرآن ; كقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة [ 5 \ 6 ] ، أي : أردتم القيام إليها ، وقوله تعالى : فإذا قرأت القرآن [ 16 \ 98 ] ، أي : أردت قراءته فاستعذ بالله الآية [ 16 \ 98 ] .
ومعنى العود عند : أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلقها فيه فلا يطلق ، وعليه فلا إشكال في الآية أيضا ; لأن إمساكه إياها الزمن المذكور لا ينافي التكفير قبل المسيس ، كما هو واضح . الشافعي
ومعنى العود عند أحمد : هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه . أما العزم ، فقد بينا أنه لا إشكال في الآية على القول به ، وأما على القول بأنه الجماع .
فالجواب : أنه إن ظاهر وجامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر ، ولا يلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير ; لأن الآية على هذا القول ، إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير ، وأنه وجوب التكفير قبل مسيس آخر ، وأما الإقدام على المسيس الأول فحرمته معلومة من عموم قوله تعالى : من قبل أن يتماسا .
ومعنى العود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى : هو العزم على الوطء ، وعليه فلا [ ص: 192 ] إشكال كما تقدم . وما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عن مالك ، من أنه حكى عنه أن العود الجماع ، فهو خلاف المعروف من مذهبه ، وكذلك ما حكاه عن أبي حنيفة من أن العود هو العود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فهو خلاف المقرر في فروع الحنفية من أنه العزم على الوطء ; كما ذكرنا . وغالب ما قيل في معنى العود راجع إلى ما ذكرنا من أقوال الأئمة رحمهم الله .
وقال بعض العلماء : المراد بالعود الرجوع إلى الاستمتاع بغير الجماع ، والمراد بالمسيس في قوله : من قبل أن يتماسا ، خصوص الجماع وعليه فلا إشكال ، ولا يخفى عدم ظهور هذا القول .
والتحقيق : عدم جواز الاستمتاع بوطء أو غيره قبل التكفير ، لعموم قوله : من قبل أن يتماسا ، وأجاز بعضهم ، قائلا : إن المراد بالمسيس في قوله : الاستمتاع بغير الوطء من قبل أن يتماسا ، نفس الجماع لا مقدماته ، وممن قال بذلك : ، الحسن البصري ، وروي عن والثوري في أحد القولين . الشافعي
وقال بعض العلماء : اللام في قوله : لما قالوا ، بمعنى : في ، أي : يعودون فيما قالوا بمعنى يرجعون فيه ; كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " " الحديث ، وقيل : اللام بمعنى : عن ، أي : يعودون عما قالوا ، أي : يرجعون عنه ، وهو قريب مما قبله . الواهب العائد في هبته
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن العود له مبدأ ومنتهى ، فمبدؤه العزم على الوطء ومنتهاه الوطء بالفعل ، فمن عزم على الوطء فقد عاد بالنية ، فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء ، ومن وطء بالفعل تحتم في حقه اللزوم ، وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير .
ويدل لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لما قال : ، فبين أن العزم على الفعل عمل يؤاخذ به الإنسان . " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " ، قالوا : يا رسول الله قد عرفنا القاتل ، بما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه "
فإن قيل : ظاهر الآية المتبادر منها يوافق قول الظاهرية ، الذي قدمنا بطلانه ; لأن الظاهر المتبادر من قوله : لما قالوا ، أنه صيغة الظهار ، فيكون العود لها تكريرها مرة أخرى .
[ ص: 193 ] فالجواب : أن المعنى لما قالوا : أنه حرام عليهم ، وهو الجماع ، ويدل لذلك وجود نظيره في القرآن ، في قوله تعالى : ونرثه ما يقول [ 19 \ 80 ] ، أي : ما يقول إنه يؤتاه من مال وولد في قوله : لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وما ذكرنا من أن من جامع قبل التكفير ، يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى ، حتى يكفر ، هو التحقيق خلافا لمن قال : تسقط الكفارة بالجماع قبل المسيس ; كما روي عن ، الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف . ولمن قال : تلزم به كفارتان ; كما روي عن ، وذكره بعضهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عمرو بن العاص . ولمن قال : تلزمه ثلاث كفارات ; كما رواه وعبد الرحمن بن مهدي ، عن سعيد بن منصور الحسن ، وإبراهيم ، والعلم عند الله تعالى . انتهى بطوله من " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .