تنبيه
اعلم أن ما يظنه كثير من أهل العلم ، من أن حديث عائشة هذا الدال على أن [ ص: 422 ] السعي لا بد منه ، وأنه لا يتم بدونه حج ، ولا عمرة أنه موقوف عليها غير صواب ، بل هو مرفوع ، ومن أصرح الأدلة في ذلك أنها رتبت بالفاء في الرواية المتفق عليها قولها : فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، على قولها : قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، وهو صريح في أن قولها : ليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، لأجل أنه صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما ، ودل هذا الترتيب بالفاء على أن مرادها بأنه سنه أنه فرضه بسنته كما جزم به ابن حجر في الفتح ، مقتصرا عليه ، مستدلا له بأنها قالت : ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته ، لم يطف بين الصفا والمروة ، فقولها : إن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما ، وترتيبها على ذلك بالفاء ، قولها : فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، وجزمها بأنه لا يتم حج ولا عمرة إلا بذلك دليل واضح على أنها إنما أخذت ذلك مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا برأي منها ، كما ترى .
وقد تقرر في الأصول في مبحث النص الظاهر من مسالك العلة أن تفيد التعليل ، وكذلك هي في كلام الراوي الفقيه ، فهو المرتبة الثانية بعد الوحي من كتاب ، أو سنة ، ثم يلي ذلك الفاء من الراوي غير الفقيه . الفاء في الكتاب ، والسنة
ومثاله في الوحي قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ؛ أي : لعلة سرقتهما . وقوله تعالى : قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض [ 2 \ 222 ] ؛ أي : لعلة كون الحيض أذى .
ومثاله في كلام الراوي . حديث أنس المتفق عليه : . فقول أنس في هذا الحديث الصحيح . أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين ، فقيل لها : من فعل بك هذا فلان أو فلان ؟ حتى سمي اليهودي ، فأومأت برأسها فجيء به فلم يزل حتى اعترف ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة
فأمر به فرض رأسه بحجرين ؛ أي : لعلة رضه رأس الجارية المذكورة بين حجرين .
ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو داود في سننه ، عن : " عمران بن حصين " ا هـ ؛ أي : سجد لعلة سهوه ، وكذلك قول أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ، ثم تشهد ثم سلم عائشة رضي الله عنها : قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما ؛ أي : لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم سن ذلك ؛ أي : فرضه بسنته كما تقدم إيضاحه ، وإلى إفادة الفاء التعليل في كلام الشارع ، ثم الراوي الفقيه ، ثم الراوي غير الفقيه أشار في مراقي السعود بقوله في مراتب النص الظاهر :
فالفاء للشارع فالفقيه فغيره يتبع بالشبيه
[ ص: 324 ] ومن أدلتهم على أن السعي ركن لا بد منه : حديث : " " ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا ، ومن حديث ابن عباس حبيبة بنت أبي تجراة ، ومن حديث تملك العبدرية ، ومن حديث . صفية بنت شيبة
قال الزيلعي في نصب الراية : أما حديث ، فرواه ابن عباس في معجمه ، ثنا الطبراني محمد بن النضر الأزدي ، عن ، عن معاوية بن عمرو المفضل بن صدقة ، عن ، ابن جريج وإسماعيل بن مسلم ، عن ، عن عطاء بن أبي رباح قال : ابن عباس " انتهى . سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حج عن الرمل ؟ فقال : " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا
وأما حديث حبيبة بنت أبي تجراة فرواه ، الشافعي وأحمد ، ، وإسحاق بن راهويه والحاكم في المستدرك ، وسكت عليه ، وأعله في الكامل ابن عدي بابن المؤمل ، وأسند تضعيفه عن أحمد ، ، ووافقهم . ومن طريق والنسائي في معجمه ، ومن طريق أحمد الطبراني رواه الشافعي ، ثم الدارقطني البيهقي في سننهما ، قال : أخبرنا الشافعي عبد الله بن المؤمل العائذي ، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن ، عن ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن صفية بنت شيبة حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه ، وهو وراءهم ، وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، وهو يقول : " " انتهى . وأخرجه اسعوا فإن الله تعالى كتب عليكم السعي الحاكم في المستدرك أيضا في الفضائل ، عن عبد الله بن نبيه ، عن جدته صفية ، عن حبيبة بنت أبي تجراة بنحوه . وسكت عنه أيضا ، ورواه في مصنفه : حدثنا ابن أبي شيبة محمد عن عبد الله بن المؤمل ، حدثنا عبد الله بن أبي حسين ، عن عطاء ، عن حبيبة بنت أبي تجراة ، فذكره ، قال : أخطأ أبو عمر بن عبد البر ، أو شيخه في موضعين منه . ابن أبي شيبة
أحدهما : أنه جعل موضع ابن محيصن عبد الله بن أبي حسين ، والآخر أنه أسقط . قال صفية بنت شيبة في كتابه : وعندي أن الوهم من ابن القطان عبد الله بن المؤمل فإن إمام كبير ، وشيخه ابن أبي شيبة ثقة ، محمد بن بشر وابن المؤمل سيئ الحفظ ، وقد اضطرب في هذا الحديث اضطرابا كثيرا فأسقط عطاء مرة ، وابن محيصن أخرى ، أخرى ، وأبدل وصفية بنت شيبة ابن محيصن بابن أبي حسين أخرى ، وجعل المرأة عبدرية تارة ويمنية أخرى . وفي الطواف تارة ، وفي السعي بين الصفا والمروة أخرى ، وكل ذلك دليل على سوء حفظه ، وقلة ضبطه . والله أعلم انتهى .
[ ص: 424 ] طريق آخر أخرجه في سننه ، عن الدارقطني ، أخبرني ابن المبارك معروف بن مشكان ، قال : أخبرني منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه صفية قالت : أخبرتني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن : دخلنا دار ابن أبي حسين فاطلعنا من باب مقطع فرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد في المسعى إلى آخره .
قال صاحب التنقيح : إسناده صحيح ، ومعروف بن مشكان باني كعبة الرحمن صدوق ، لا نعلم من تكلم فيه ، ومنصور هذا ثقة مخرج له في الصحيحين . انتهى .
وأما حديث تملك العبدرية ; فأخرجه البيهقي في سننه ، في معجمه عن والطبراني مهران بن أبي عمر ، ثنا سفيان ، ثنا المثنى بن الصباح ، عن المغيرة بن حكيم ، عن ، عن صفية بنت شيبة تملك العبدرية . قالت : الصفا والمروة ، وهو يقول : " أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " انتهى . تفرد به نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا في غرفة لي بين مهران بن أبي عمر ، قال : في حديثه اضطراب . وأما حديث البخاري فرواه صفية بنت شيبة في معجمه ، حدثنا الطبراني ، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي علي بن الحكم الأودي ، ثنا ، عن حميد بن عبد الرحمن المثنى بن الصباح ، عن المغيرة بن حكيم ، عن قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صفية بنت شيبة " ، انتهى . اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي
وذكر في علله في هذا الحديث اضطرابا كثيرا . ثم قال : والصحيح قول من قال عن الدارقطني عمر بن محيصن ، عن عطاء ، عن صفية ، عن حبيبة بنت أبي تجراة وهو الصواب انتهى .
وقال الحازمي في كتابه : ( الناسخ والمنسوخ ) : الوجه السادس والعشرون من وجوه الترجيحات : هو أن يكون أحد الحديثين من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مقارن فعله ، والآخر مجرد قوله لا غير ، فيكون الأول أولى بالترجيح نحو ما روته حبيبة بنت أبي تجراة ، قالت : " ، فهو أولى من حديث : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في بطن المسيل يسعى وهو يقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " لأنه مجرد قول . والأول قول وفعل ، وفيه أيضا إخباره عن الله أنه أوجبه علينا ، فكان أولى . انتهى كلامه . الحج عرفة
ورواه في كتاب المغازي : حدثنا الواقدي علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه ، عن برة بنت أبي تجراة قالت : . انتهى كله من نصب الراية للزيلعي . لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى السعي قال : " أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي [ ص: 425 ] فاسعوا " قالت : فسعى حتى رأيت إزاره انكشف عن فخذه
وقد رأيته عزا لصاحب التنقيح : أن حديث ، عن نسوة من صفية بنت شيبة بني عبد الدار أدركن النبي صلى الله عليه وسلم أنهن رأينه يطوف بين الصفا والمروة وهو يقول : " " ، أن إسناده صحيح ، وهو نص في محل النزاع . والظاهر أن الإسناد المذكور صحيح كما قال . لأن إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا معروف بن مشكان المذكور صدوق ، ومنصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث العبدري الحجبي ثقة ، وهو ابن المذكورة . صفية بنت شيبة
وقال النووي في شرح المهذب : واحتج أصحابنا بحديث ، عن نسوة من صفية بنت شيبة بني عبد الدار أنهن سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد استقبل الناس في المسعى ، وقال : " " رواه يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم ، الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن . انتهى منه .
وهو نص صالح للاحتجاج في أن السعي مما كتب على الناس ، ولفظة : كتب : تدل على اللزوم .
فإن قيل : حديث حبيبة المذكور في إسناده عبد الله بن المؤمل ، وهو وإن كان وثقه وقال : يخطئ ، فقد ضعفه غيره ، وحديث ابن حبان صفية في إسناده ، وهو ضعيف ، وحديث : موسى بن عبيدة تملك المذكور فيه المثنى بن الصباح ، وهو وإن وثقه في رواية ، فقد ضعفه جماعة . وحديث ابن معين المذكور فيه ابن عباس المفضل بن صدقة ، وهو متروك .
فالجواب : أن رواية ، عن نسوة من صفية بنت شيبة بني عبد الدار عند ، الدارقطني والبيهقي ، ليس في إسنادها شيء مما ذكر ، وقد صحح إسنادها ابن الهمام في التنقيح ، كما ذكره الزيلعي وحسنها النووي في شرح المهذب ، والبيهقي روى حديثها المذكور من طريق ، قال في سننه الكبرى : أخبرنا الدارقطني ، أبو عبد الرحمن السلمي وأبو بكر بن الحارث الفقيه قالا : ثنا علي بن عمر الحافظ ، ثنا ، ثنا يحيى بن صاعد ، ثنا الحسن بن عيسى النيسابوري ، أخبرني ابن المبارك معروف ابن مشكان ، أخبرني منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه صفية ، أخبرتني عن نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن : ابن أبي حسين ، فاطلعنا من باب مقطع ، ورأينا [ ص: 426 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد في المسعى ، حتى إذا بلغ زقاق بني فلان ، موضعا قد سماه من المسعى ، استقبل الناس فقال : " يا أيها الناس ، اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم " انتهى منه . دخلنا دار
فهذا الإسناد هو الذي صححه صاحب التنقيح ، وحسنه النووي .
واعلم أن اختلاف الروايات في المرأة التي روت عنها صفية المذكورة هذا الحديث لا يضر لتصريحها في رواية الدارقطني والبيهقي هذه بأنها روت ذلك عن نسوة أدركن النبي صلى الله عليه وسلم . وإذن فلا مانع من أن تسمى واحدة منهن في رواية ، وتسمى غيرها منهن في رواية أخرى كما لا يخفى وقال ابن حجر في فتح الباري : واحتج ابن المنذر للوجوب بحديث ، عن صفية بنت شيبة حبيبة بنت أبي تجراة بكسر المثناة ، وسكون الجيم بعدها راء ، ثم ألف ساكنة ، ثم هاء ، وهي إحدى نساء بني عبد الدار ، قالت : قريش دار آل أبي حسين ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي ، وسمعته يقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " أخرجه دخلت مع نسوة من ، الشافعي وأحمد ، وغيرهما . وفي إسناد هذا الحديث : عبد الله بن المؤمل ، وفيه ضعف ، ومن ثم قال ابن المنذر : إن ثبت فهو حجة في الوجوب .
قلت : له طريق أخرى في صحيح مختصرة ، وعند ابن خزيمة ، عن الطبراني كالأولى ، وإذا انضمت إلى الأولى قويت . ابن عباس
واختلف على في اسم الصحابية التي أخبرتها ، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة ، فقد وقع عند صفية بنت شيبة عنها : أخبرتني نسوة من الدارقطني بني عبد الدار ، فلا يضره الاختلاف . انتهى الغرض من كلام ابن حجر .
وقد علمت مما ذكرنا أن بعض طرق حديث : " " ، لا تقل عن درجة القبول . وهو نص في محل النزاع مع أنه معتضد بما ذكرناه من حديث إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا عائشة ، عند الشيخين . وبظاهر الآية كما بينا ، وبما سيأتي أيضا إن شاء الله تعالى .
ومن أدلتهم على لزوم السعي ما جاء في بعض روايات حديث أبي موسى المتفق عليه ، من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، قال مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا ، محمد بن المثنى وابن بشار ، قال ابن المثنى : حدثنا ، أخبرنا محمد بن جعفر شعبة ، عن ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب أبي موسى قال : بالبطحاء ، فقال لي " أحججت ؟ فقلت : نعم . فقال : بم أهللت ؟ قال : قلت : لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم . قال : فقد أحسنت . طف بالبيت وبالصفا والمروة " . الحديث قالوا : فقوله صلى الله عليه وسلم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو منيخ [ ص: 427 ] " طف لأبي موسى الأشعري بالبيت وبالصفا والمروة " أمر صريح منه صلى الله عليه وسلم بذلك ، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب ما لم يقم دليل صارف عن ذلك ، وقد دل على اقتضائها الوجوب : الشرع واللغة .
وقال بعضهم : إن العقل يفيد ذلك ، وليس بسديد عندي ، أما دلالة الشرع على ذلك ففي نصوص كثيرة كقوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] وهذا الوعيد العظيم على مخالفة أمره ، يدل على وجوب امتثال أمره ، وكقوله تعالى : لإبليس لما لم يمتثل الأمر المدلول عليه بصيغة افعل التي هي قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 20 \ 116 ] ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك الآية [ 7 \ 12 ] فتوبيخه وتقريعه له في هذه الآية لمخالفته الأمر ، وقد سمى نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مخالفة الأمر معصية وذلك يدل على وجوب الامتثال في قوله تعالى عنه : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] وكقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فجعل أمر الله ورسوله مانعا من الاختيار موجبا للامتثال ، منبها على عدم الامتثال معصية في قوله بعده : ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا [ 33 \ 36 ] وكقوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : " " إلى غير ذلك من الأدلة . إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه
وأما دلالة اللغة على اقتضاء صيغة افعل الوجوب . فإيضاحها أن أهل اللسان العربي مجمعون على أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء مثلا ، ثم لم يمتثل العبد وعاقبه سيده على عدم الامتثال كان ذلك العقاب واقعا موقعه ، لأن صيغة افعل ألزمته الامتثال ، وليس للعبد أن يقول : صيغة افعل لم توجب علي الامتثال ، ولم تلزمني إياه ؟ فعقابك لي غلط لأني لم أترك شيئا لازما ، حتى تعاقبني عليه . وإجماعهم على أنه ليس له ذلك وأن عقابه له صواب لعصيانه دليل على أن صيغة افعل تقتضي الوجوب ، ما لم يصرف عنه صارف ، وهو قول جمهور الأصوليين . ومقابله أقوال أخر ، أشار لها في مراقي السعود بقوله في مبحث الأمر :
وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب
[ ص: 428 ] وقيل للوجوب أمر الرب وأمر من أرسله للندب
ومفهم الوجوب يدري الشرع أو الحجا أو المفيد الوضع
وقال بعض أهل العلم : إن دلالة اللغة على اقتضاء الأمر الوجوب راجعة إلى دلالة الشرع ; لأن الشرع هو الذي دل على وجوب طاعة العبد لسيده .
ومن أدلتهم على أن الصفا والمروة لا بد منه : ما قدمنا من حديث السعي بين عند ابن عمر الترمذي ، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " " قال من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا المجد في المنتقى : رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب ، وفيه دليل على وجوب السعي ، ووقوف التحلل عليه . انتهى منه .
والذي رأيته في الترمذي لما ساق الحديث بلفظه المذكور : هو أنه قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح ، تفرد به الدراوردي على ذلك اللفظ ، وقد رواه غير واحد عن ، ولم يرفعوه . وهو أصح . انتهى منه . عبيد الله بن عمر
ومن أدلتهم على ذلك : ما جاء في بعض الروايات الثابتة في الصحيح ، من أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها : " الصفا والمروة عن حجك وعمرتك " وهذا اللفظ في صحيح يجزئ عنك طوافك بين مسلم ، قالوا : ويفهم من قوله : " الصفا والمروة عن حجك وعمرتك " أنها لو لم تطف بينهما لم يحصل لها إجزاء عن حجها وعمرتها ، هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بأنه ركن من أركان الحج والعمرة . يجزئ عنك طوافك بين
وأما حجة الذين قالوا : إنه سنة لا يجب بتركه شيء ، فهي قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] قالوا : فرفع الجناح في قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] دليل قرآني على عدم الوجوب ، كما قاله ، لخالته عروة بن الزبير رضي الله عنها . أم المؤمنين عائشة
والجواب عن الاستدلال بهذه الآية على عدم وجوب السعي : هو ما أجابت به عائشة عروة ، فإنها أولا ذمت هذا التفسير لهذه الآية بقولها : بئس ما قلت يا ابن أختي ، ومعلوم أن لفظة بئس فعل جامد لإنشاء الذم ، وما ذمت تفسير الآية بما ذكر ، إلا لأنه تفسير غير صحيح ، وقد بينت له أن الآية نزلت جوابا لسؤال من ظن أن في السعي بين الصفا والمروة جناحا ، وإذا فذكر رفع الجناح لمطابقة الجواب للسؤال ، لا لإخراج المفهوم عن حكم [ ص: 429 ] المنطوق ، فلو سألك سائل مثلا قائلا : هل علي جناح في أن أصلي الخمس المكتوبة ؟ وقلت له : لا جناح عليك في ذلك ، لم يلزم من ذلك أنك تقول : بأنها غير واجبة ، وإنما قلت : لا جناح في ذلك ، ليطابق جوابك السؤال ، وقد دلت قرينتان على أنه ليس المراد رفع الجناح عمن لم يسع بين الصفا والمروة .
الأولى منهما : أن الله قال في أول الآية : إن الصفا والمروة من شعائر الله وكونهما من شعائر الله ، لا يناسبه تخفيف أمرهما برفع الجناح عمن لم يطف بينهما ، بل المناسب لذلك تعظيم أمرهما ، وعدم التهاون بهما ، كما أوضحناه في أول هذا المبحث .
والقرينة الثانية : هي أنه لو أراد ذلك المعنى لقال : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ، كما قالت عائشة لعروة ، وقد تقرر في الأصول : أن اللفظ الوارد جوابا لسؤال لا مفهوم مخالفة له ; لأن المقصود به مطابقة الجواب للسؤال ، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، وقد أوضحنا هذا في سورة البقرة في الكلام على آية الطلاق ، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يمنع اعتبار دليل الخطاب ، أعني مفهوم المخالفة :
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
ومحل الشاهد منه قوله : أو النطق انجلب ، للسؤل .
ومعنى ذلك : أن ; لأن المقصود بلفظ المنطوق مطابقة الجواب للسؤال ، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق . المنطوق إذا كان جوابا لسؤال فلا مفهوم مخالفة له
فإن قيل : جاء في بعض قراءات الصحابة : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما كما ذكره ، الطبري وابن المنذر وغيرهما ، عن ، أبي بن كعب ، وابن مسعود رضي الله عنهم . وابن عباس
فالجواب من وجهين :
الأول : أن هذه القراءة لم تثبت قرآنا لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية ، وما ذكره الصحابي على أنه قرآن ، ولم يثبت كونه قرآنا . ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يستدل به على شيء ، وهو مذهب مالك ، ، ووجهه أنه لما لم يذكره إلا لكونه قرآنا ، فبطل كونه قرآنا بطل من أصله ، فلا يحتج به على شيء ، وقال بعض أهل العلم : إذا بطل كونه قرآنا لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد ، التي ليست بقرآن ، فعلى القول الأول : فلا إشكال ، وعلى الثاني : فيجاب عنه بأن القراءة [ ص: 430 ] المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة ، وما خالف المتواتر المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما فهو باطل ، والنفي والإثبات لا يمكن الجمع بينهما لأنهما نقيضان . والشافعي
الوجه الثاني : هو ما ذكره ابن حجر في الفتح عن ، الطبري ، من أن قراءة : أن لا يطوف بهما محمولة على القراءة المشهورة ، ولا زائدة . انتهى . ولا يخلو من تكلف كما ترى . والطحاوي
واعلم أن قوله تعالى : ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] لا دليل فيه ، على أن السعي تطوع ، وليس بفرض ; لأن التطوع المذكور في الآية راجع إلى نفس الحج والعمرة ، لا إلى السعي ; لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع ، والعلم عند الله تعالى .
وأما حجة من قال : السعي واجب يجبر بدم ، فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بينهما فدل ذلك على أن الطواف بينهما نسك ، وفي الأثر المروي عن : من ترك نسكا فعليه دم . وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح . ابن عباس