( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) ذكروا سبب نزولها في قصة طويلة ، ملخصها : أن جماعة من الصحابة عزموا على التقشف المفرط ، والعبادة المفرطة الدائمة ، من الصيام الدائم ، وترك إتيان النساء واللحم والودك والطيب ، ولبس المسوح ، والسياحة في الأرض ، وجب المذاكير ، فنهاهم الرسول عن ذلك ، ونزلت . وقيل : حرم عشاه ليلة نزل به ضيف; لكون امرأته انتظرته ولم تبادر إلى إطعام ضيفه فحرمته هي إن لم يذقه ، فحرمه الضيف فقال عبد الله بن رواحة عبد الله : قربي طعامك كلوا بسم الله ، فأكلوا جميعا ، وأخبر الرسول بذلك فقال : أحسنت . وقيل : في سبب نزولها غير ذلك .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، هي أنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهبانا وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها ، أوهم ذلك ترغيب المسلمين في مثل ذلك التقشف والتبتل ، بين تعالى أن الإسلام لا رهبانية فيه . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ، وأكل - صلى الله عليه وسلم - ، الدجاج والفالوذج ، وكان يعجبه الحلوى والعسل [ ص: 9 ] والطيبات هنا المستلذات من الحلال ، ومعنى لا تحرموها : لا تمنعوا أنفسكم منها لمنع التحريم ، ولا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها; تزهدا منكم وتقشفا ، وهذا هو المناسب لسبب النزول . أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب ، فمن رغب عن سنتي ، فليس مني
وقيل : المعنى : لا تحرموا ما تريدون تحصيله لأنفسكم من الحلال بطريق غير مشروع ، كالغصب والربا والسرقة ، بل توصلوا بطريق مشروع ، من ابتياع واتهاب ، وغيرهما . وقيل : معناه : لا تعتقدوا تحريم ما أحله الله لكم . وقيل : لا تحرموا على أنفسكم بالفتوى . وقيل : لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين; لقوله : ( لم تحرم ما أحل الله لك ) ، وقيل : خلط المغصوب بالمملوك خلطا لا يتميز منه ، فيحرم الجميع ، ويكون ذلك سببا لتحريم ما كان حلالا ( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) هذا نهي عن الاعتداء ، فيدخل فيه جميع أنواع الاعتداء ، ولا سيما ما نزلت الآية بسببه . قال الحسن : لا تجاوزوا ما حد لكم من الحلال إلى الحرام ، واتبعه فقال : ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم . وقال الزمخشري ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وإبراهيم : لا تعتدوا بالخنا وتحريم النساء . وقال عكرمة أيضا : لا تسيروا بغير سيرة الإسلام . وقال السدي وعكرمة أيضا : هو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله ، فهو تأكيد لقوله ( لا تحرموا ) ، وقيل : ولا تعتدوا بالإسراف في تناول الطيبات ، كقوله : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) ، ( وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ) تقدم تفسير مثلها في قوله : ( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) ، ( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) تأكيد للوصية بما أمر به ، وزاده تأكيدا بقوله : ( الذي أنتم به مؤمنون ) لأن الإيمان به يحمل على التقوى في امتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه .