كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها القراديس والفومان والبصل
وأنشد مؤرج لحسان :
وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل
يعني الفوم والبصل ، وهذا كما أبدلوا بالفاء الثاء ، قالوا في الأثافي : الأثاثي ، وكلا البدلين لا ينقاس ، أعني إبدال الثاء فاء والفاء ثاء . وقال أبو مالك وجماعة : الفوم : الحنطة ، ومنه قول أحيحة بن الجلاح :
قد كنت أحسبني كأغنى واحد قدم المدينة عن زراعة فوم
قيل : وهي لغة مصر ، وهو اختيار . وقال المبرد الفراء : وهي لغة قديمة . وقال ابن قتيبة : هي الحبوب التي تؤكل . وقال والزجاج أبو عبيدة : هي السنبلة ، زاد وابن دريد أبو عبيدة : بلغة أسد . وقيل : الحبوب التي تخبز . وقيل : الخبز ، تقول العرب : فوموا لنا ، أي اخبزوا ، واختاره ابن قتيبة قال :
تلتقم الفالح لم يفوم تقمما زاد على التقمم
وقال قطرب : الفوم : كل عقدة في البصل ، وكل قطعة عظيمة في اللحم ، وكل لقمة كبيرة . وقيل : إنه الحمص ، وهي لغة شامية ، ويقال لبائعه : فامي ، مغير عن فومي للنسب ، كما قالوا : شهلي ودهري . العدس : معروف ، وعدس وعدس من الأسماء الأعلام ، وعدس : زجر للبغل . البصل : معروف . أدنى : أفعل التفضيل من الدنو ، وهو القرب ، يقال منه : دنا يدنو دنوا . وقال : هو أفعل من الدناءة ، وهي الخسة والرداءة ، خففت الهمزة بإبدالها ألفا . وقال علي بن سليمان الأخفش أبو زيد في المهموز : دنؤ الرجل ، يدنأ دناءة ودناء ، ودنأ يدنأ . وقال غيره : هو أفعل من الدون ، أي أحط في المنزلة ، وأصله أدون ، فصار وزنه : أفلع ، نحو : أولى [ ص: 220 ] لك ، هو أفعل من الويل ، أصله أويل فقلب .
المصر : البلد ، مشتق من مصرت الشاة ، أمصرها مصرا : حلبت كل شيء في ضرعها ، وقيل المصر : الحد بين الأرضين ، وهجر يكتبون : اشترى الدار بمصورها : أي بحدودها . وقال : عدي بن زيد
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
السؤال : الطلب ، ويقال : سأل يسأل سؤالا ، والسؤل : المطلوب ، وسال يسال : على وزن خاف يخاف ، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب ، سلهم أيهم بذلك زعيم . قالوا : لأن السؤال سبب إلى العلم فأجري مجرى العلم . الذلة : مصدر ذل يذل ذلة وذلا ، وقيل : الذلة كأنها هيئة من الذل ، كالجلسة ، والذل : الخضوع وذهاب الصعوبة . المسكنة : مفعلة من السكون ، ومنه سمي المسكين لقلة حركاته وفتور نشاطه ، وقد بني من لفظه فعل ، قالوا : تمسكن ، كما قالوا : تمدرع من المدرعة ، وقد طعن على هذا النقل وقيل : لا يصح وإنما الذي صح تسكن وتدرع .
باء بكذا : أي رجع ، قاله . أو اعترف ، قاله الكسائي أبو عبيدة ، واستحق ، قاله ; أو نزل وتمكن ، قاله أبو روق ; أو تساوى ، قاله المبرد ، وأنشدوا لكل قول ما يستدل به من كلام العرب ، وحذفنا نحن ذلك . النبيء : مهموز من أنبأ ، فعيل بمعنى مفعل ، كسميع من أسمع ، وجمع على النبآء ، ومصدره النبوءة ، وتنبأ الزجاج مسيلمة ، كل ذلك دليل على أن اللام همزة . وحكى الزهراوي أنه يقال : نبؤ ، إذا ظهر فهو نبيء ، وبذلك سمي الطريق الظاهر : نبيئا . فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل ، كشريف من شرف ، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز ، ثم سهل . وقيل : مشتق من نبا ينبو : إذا ظهر وارتفع ، قالوا : والنبي : الطريق الظاهر ، قال الشاعر :
لما وردن نبيا واستتب بنا مسحنفر لخطوط المسح منسحل
قال : النبي : الطريق ، سمي به ; لأنه يهتدى به ، قالوا : وبه سمي الرسول ; لأنه طريق إلى الله تعالى . الكسائي
العصيان : عدم الانقياد للأمر والنهي . والفعل منه : عصى يعصي ، وقد جاء العصي في معنى العصيان . أنشد ابن حماد في تعليقه عن أبي الحسن بن الباذش مما أنشده الفراء :
في طاعة الرب وعصي الشيطان
الاعتداء : افتعال من العدو ، وقد مر شرحه عند قوله : ( بعضكم لبعض عدو ) .
( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) . القائل : هو الله تعالى ، وهل ذلك على لسان موسى أو يوشع - عليهما السلام - قولان . وانتصاب ( هذه ) على ظرف المكان ; لأنه إشارة إلى ظرف المكان ، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر ، وعلى ظرف الزمان إذا كن إشارة إليهما تقول : ضربت هذا الضرب ، وصمت هذا اليوم . هذا مذهب في دخل ، أنها تتعدى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة ( في ) فإن كان الظرف مجازيا تعدت بفي ، نحو : دخلت في غمار الناس ، ودخلت في الأمر المشكل . ومذهب سيبويه الأخفش والجرمي أن مثل : دخلت البيت ، مفعول به لا ظرف مكان ، وهي مسألة تذكر في علم النحو . والألف واللام في ( القرية ) للحضور ، وانتصاب ( القرية ) على النعت ، أو على عطف البيان ، كما مر في إعراب ( الشجرة ) من قوله : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) ، وإن اختلفت جهتا الإعراب في ( هذه ) فهي في : ( ولا تقربا هذه ) مفعول به ، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه .
والقرية هنا بيت المقدس في قول الجمهور ، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي والربيع وغيرهم . وقيل : أريحا ، قاله أيضا ، وهي ابن عباس بأرض المقدس . قال أبو زيد عمر بن شبة النمري : كانت قاعدة ومسكن ملوك ، وفيها مسجد هو بيت المقدس ، وفي المسجد بيت يسمى إيليا . وقال الكواشي : أريحا قرية الجبارين ، كانوا من بقايا عاد ، يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق ، وقيل : الرملة ، قاله الضحاك ; وقيل : أيلة ، وقيل : الأردن ; وقيل : فلسطين ; وقيل : [ ص: 221 ] البلقاء ; وقيل : تدمر ، وقيل : مصر ; وقيل : قرية بقرب بيت المقدس غير معينة أمروا بدخولها ; وقيل : الشام . روي ذلك عن ابن كيسان ، وقد رجح القول الأول لقوله في المائدة : ( ادخلوا الأرض المقدسة ) . قيل : ولا خلاف ، أن المراد في الآيتين واحد . ورد هذا القول بقوله : ( فبدل ) لأن ذلك يقتضي التعقيب في حياة موسى ، لكنه مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس . وأجاب من قال إنها بيت المقدس بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن القول كان على لسان موسى ، وهذا الجواب وهم ; لأنه قد تقدم أن المراد في هذه الآية وفي التي في المائدة من قوله : ( ادخلوا الأرض المقدسة ) واحد ، والقائل ذلك في آية المائدة قطعا . ألا ترى إلى قوله : ( ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة ) ، وقولهم : ( قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ) ؟ قال وهب : كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، فقيل لهم : ( ادخلوا ) الآية . وقال غيره : ملوا المن والسلوى ، فقيل لهم : ( اهبطوا مصرا ) ، وكان أول ما لقوا أريحا . وفي قوله : ( هذه القرية ) دليل على أنهم قاربوها وعاينوها ; لأن ( هذه ) إشارة لحاضر قريب . قيل : والذي قال لهم ذلك هو يوشع بن نون ، فإنه نقل عنهم أنهم لم يدخلوا البيت المقدس إلا بعد رجوعهم من قتال الجبارين ، ولم يكن موسى معهم حين دخلوها ، فإنه مات هو وأخوه في التيه . وقيل : لم يدخلا التيه لأنه عذاب ، والله لا يعذب أنبياءه .
( فكلوا منها حيث شئتم رغدا ) : تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في قصة آدم في قوله : ( وكلا منها رغدا حيث شئتما ) إلا أن هناك العطف بالواو وهنا بالفاء ، وهناك تقديم الرغد على الظرف ، وهنا تقديم الظرف على الرغد ، والمعنى فيهما واحد ، إلا أن الواو هناك جاءت بمعنى الفاء ، قيل : وهو المعنى الكثير فيها ، أعني أنه يكون المتقدم في الزمان والمعطوف بها هو المتأخر في الزمان ، وإن كانت قد ترد بالعكس ، وهو قليل ، وللمعية والزمان ، وهو دون الأول ، ويدل أنها بمعنى الفاء ما جاء في الأعراف من قوله : ( فكلا ) بالفاء ، والقضية واحدة . وأما تقديم الرغد هناك فظاهر ، فإنه من صفات الأكل أو الآكل ، فناسب أن يكون قريبا من العامل فيه ولا يؤخر عنه ويفصل بينهما بظرف وإن لم يكن فاصلا مؤثرا المنع ; لاجتماعهما في المعمولية لعامل واحد ، وأما هنا فإنه أخر لمناسبة الفاصلة بعده ، ألا ترى أن قوله : ( فكلوا منها حيث شئتم رغدا ) وقوله : ( وادخلوا الباب سجدا ) ، فهما سجعتان متناسبتان ؟ فلهذا ، والله أعلم ، كان هذان التركيبان على هذين الوضعين .
( وادخلوا الباب ) : الخلاف في نصب ( الباب ) كالخلاف في نصب ( القرية ) والباب أحد أبواب بيت المقدس ، ويدعى الآن : باب حطة ، قاله ; أو الثامن من أبواب ابن عباس بيت المقدس ، ويدعى باب التوبة ، قاله مجاهد والسدي ; أو باب القرية التي أمروا بدخولها ، أو باب القبة التي كان فيها موسى وهارون يتعبدان ، أو باب في الجبل الذي كلم الله عليه موسى . ( سجدا ) نصب على الحال من الضمير في ( ادخلوا ) قال : معناه ركعا ، وعبر عن الركوع بالسجود ، كما يعبر عن السجود بالركوع ، قيل : لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء ، وبعد هذا القول لأنه لو كان ضيقا لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعا ، فلا يحتاج فيه إلى الأمر ، وهذا لا يلزم ; لأنه كان يمكن أن تكون الحال لازمة بمعنى أنه لا يمكن أن يقع الدخول إلا على هذه الحال ، والحال اللازمة موجودة في كلام العرب . وقيل : معناه خضعا متواضعين ، واختاره ابن عباس أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل في المنتخب ، ونذكر وجه اختياره لذلك . وقيل : معناه السجود المعروف من وضع الجبهة على الأرض ، والمعنى : ادخلوا ساجدين شكرا لله تعالى ، إذ ردكم إليها . وهذا هو ظاهر اللفظ . قال أبو عبد الله بن أبي الفضل : وهذا بعيد ; لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود ، فلو حملناه على ظاهره لامتنع ذلك ، فلما تعذر على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع ; لأنهم إذا أخذوا [ ص: 222 ] في التوبة ; ، وما ذهب إليه لا يلزم ; لأن أخذ الحال مقارنة ، فتعذر ذلك عنده ، وليس بمتعذر لأنه لا يبعد أن أمروا بالدخول وهم ساجدون ، فيضعون جباههم على الأرض وهم داخلون . وتصدق الحال المقارنة بوضع الجبهة على الأرض إذا دخلوا . وأما إذا جعلنا الحال مقدرة فيصح ذلك ; لأن السجود إذ ذاك يكون متراخيا عن الدخول ، والحال المقدرة موجودة في لسان العرب . من ذلك ما في كتاب فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاشعا مستكينا مررت برجل معه صقر صائدا به غدا . وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيرا ، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة ، كان أولى . وقال سيبويه : أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب ، شكرا لله وتواضعا ، وما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب ، بل أمروا بالدخول في حال السجود . فالسجود ليس مأمورا به ، بل هو قيد في وقوع المأمور به ، وهو الدخول ، والأحوال نسب تقييدية ، والأوامر نسب إسنادية ، فتناقضتا ، إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييديا إسناديا ; لأنه من حيث التقييد لا يكتفي كلاما ومن حيث الإسناد يكتفي ؛ فظهر التناقض . وفي كيفية دخولهم الباب أقوال ، قال الزمخشري ابن عباس وعكرمة : دخلوا من قبل أستاههم ، وقال : دخلوا مقنعي رءوسهم ، وقال ابن مسعود مجاهد : دخلوا على حروف أعينهم ، وقال مقاتل : دخلوا مستلقين ، وقيل : دخلوا منزحفين على ركبهم عنادا وكبرا ، والذي ثبت في البخاري ومسلم أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاههم . فاضمحلت هذه التفاسير ، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ( وقولوا حطة ) ، حطة : مفر ، ومحكي القول لا بد أن يكون جملة ، فاحتيج إلى تقدير مصحح للجملة ، فقدر مسألتنا حطة . هذا تقدير . وقال الحسن بن أبي الحسن : التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة ، وقال غيرهما : التقدير أمرك حطة . وقيل : التقدير أمرنا حطة ، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيه . قال الطبري : والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله : الزمخشري
صبر جميل فكلانا مبتلى
والأصل صبرا . انتهى كلامه ، وهو حسن . ويؤكد هذا التخريج قراءة : ( حطة ) بالنصب ، كما روي : إبراهيم بن أبي عبلة
صبرا جميلا فكلانا مبتلى
بالنصب . والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول ; لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر ، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر :
إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة معتقة مما تجيء به التجر
روي برفع ( طعم ) على تقدير : هذا طعم مدامة ، وبالنصب على تقدير : ذقت طعم مدامة . قال : فإن قلت : هل يجوز أن ينصب ( حطة ) في قراءة من نصبها يقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة ؟ قلت : لا يبعد . انتهى . وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات ، إنما يدخل على الجمل للحكاية ، فيكون في موضع المفعول به ، إلا إن كان المفرد مصدرا نحو : قلت قولا ، أو صفة لمصدر نحو : قلت حقا ، أو معبرا به عن جملة نحو : قلت شعرا وقلت خطبة ، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر ; لأن الشعر والخطبة نوعان من القول ، فصار كالقهقرى من الرجوع ، وحطة ليس واحدا من هذه . ولأنك إذا جعلت ( حطة ) منصوبة بلفظ ( قولوا ) كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي ، والأصل هو الإسناد المعنوي . وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلا إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى . ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام . أما ما ذهب [ ص: 223 ] إليه الزمخشري أبو عبيدة من أن قوله : ( حطة ) مفرد ، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعا من جملة ، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة - فبعيد عن الصواب لأنه يبقي ( حطة ) مرفوعا بغير رافع ، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات ، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى : ( يقال له إبراهيم ) إلى تأويل ، وأما تشبيهه إياه بقوله :
سمعت الناس ينتجعون غيثا وجدنا في كتاب بني تميم
أحق الخيل بالركض المعار
فليس بسديد ; لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل ; لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفردا وقد يكون جملة . وأما القول فلا يقع إلا على الجمل ، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره ، وليس ( حطة ) منها . واختلفت أقوال المفسرين في حطة ، فقال الحسن : معناه حط عنا ذنوبنا ، وقال ابن عباس وابن جبير ووهب : أمروا أن يستغفروا ، وقال عكرمة : معناها لا إله إلا الله ، وقال الضحاك : معناه وقولوا هذا الأمر الحق ، وقيل : معناه نحن لا نزال تحت حكمك ممتثلون لأمرك ، كما يقال قد حططت في فنائك رحلي . وقد تقدمت التقادير في إضمار ذلك المبتدأ قبل ( حطة ) وهي أقاويل لأهل التفسير . وقد روي عن أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها ، قيل : والأقرب خلافه ; لأن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها ، ولأن الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم والخضوع ، حتى لو قالوا : اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك ، لكان الخضوع حاصلا ; لأن المقصود من التوبة أما بالقلب فبالندم وأما باللسان فبذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب ، وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها . ابن عباس
( يغفر ) ، نافع : بالياء مضمومة ، ابن عامر . بالتاء ، أبو بكر من طريق الجعفي ( يغفر ) الباقون : نغفر . فمن قرأ بالياء مضمومة فلأن الخطايا مؤنث ، ومن قرأ بالياء مفتوحة فالضمير عائد على الله تعالى ويكون من باب الالتفات ; لأن صدر الآية ( وإذ قلنا ) ثم قال : ( يغفر ) ، فانتقل من ضمير متكلم معظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد ، ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على القول الدال عليه ( وقولوا ) ، أي نغفر القول ، ونسب الغفران إليه مجازا لما كان سببا للغفران ، ومن قرأ بالنون ، وهي قراءة باقي السبعة ، فهو الجاري على نظام ما قبله من قوله : ( وإذ قلنا ) ، وما بعده من قوله : ( وسنزيد ) ، فالكلام به في أسلوب واحد ، ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ ( خطاياكم ) ، وأمالها . وقرأت طائفة : ( تغفر ) بفتح التاء ، قيل : كأن الحطة تكون سبب الغفران ، يعني قائل هذا وهو الكسائي ابن عطية ، فيكون الضمير للحطة . وهذا ليس بجيد ; لأن نفس اللفظة بمجردها لا تكون سببا للغفران . وقد بينا ذلك قبل ، فالضمير عائد على المقالة المفهومة من : ( وقولوا ) ، ونسب الغفران إليها على طريق المجاز ، إذ كانت سببا للغفران . وقرأ الجحدري وقتادة : تغفر بضم التاء وإفراد الخطيئة . وروي عن قتادة : يغفر بالياء مضمومة . وقرأ : يغفر بالياء مفتوحة وإفراد الخطيئة . وقرأ الأعمش الحسن : يغفر بالياء مفتوحة والجمع المسلم . وقرأ أبو حيوة : تغفر بالتاء مضمومة وبالجمع المسلم . وحكى الأهوازي أنه قرأ : خطأياكم بهمز الألف وسكون الألف الأخيرة . وحكي عنه أيضا العكس . وتوجيه هذا الهمز أنه استثقل النطق بألفين مع أن الحاجز حرف مفتوح والفتحة تنشأ عنها الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فهمز إحدى الألفين ليزول هذا الاستثقال ، وإذ كانوا قد همزوا الألف المفردة بعد فتحه في قوله :
وخندف هامة هذا العألم
فلأن يهمزوا هذا أولى ، وهذا توجيه شذوذ . ومن قرأ بضم الياء أو التاء كان : خطاياكم ، أو خطياتكم ، أو خطيتكم مفعولا لم يسم فاعله ، ومن قرأ بفتح التاء أو الياء أو بالنون ، كان ذلك مفعولا ، وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر . وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى : ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) وذكرنا الخلاف في ذلك . وهنا تقدمت أوامر أربعة : ( ادخلوا ) ، [ ص: 224 ] ( فكلوا ) ، ( وادخلوا الباب ) ، ( وقولوا حطة ) ، والظاهر أنه لا يكون جوابا إلا للآخرين ، وعليه المعنى ; لأن ترتب الغفران لا يكون على دخول القرية ولا على الأكل منها ، وإنما يترتب على دخول الباب لتقييده بالحال التي هي عبادة وهي السجود ، وبقوله : ( وقولوا حطة ) لأن فيه السؤال بحط الذنوب ، وذلك لقوة المناسبة وللمجاورة . ويدل على ترتب ذلك عليها ما في الأعراف من قوله تعالى : ( وقولوا حطة ) ، ( وادخلوا الباب سجدا ) ، ( نغفر ) ، والقصة واحدة . فرتب الغفران هناك على قولهم حطة وعلى دخول الباب سجدا ، لما تضمنه الدخول من السجود . وفي تخالف هاتين الجملتين في التقديم والتأخير دليل على أن الواو لا ترتب وأنها لمطلق الجمع . وقرأ من الجمهور بإظهار الراء من ( نغفر ) عند اللام ، وأدغمها قوم قالوا وهو ضعيف .
( وسنزيد ) : هنا بالواو ، وفي الأعراف ( سنزيد ) ، والتي في الأعراف مختصرة . ألا ترى إلى سقوط رغدا والواو من : ( وسنزيد ) . وقوله : ( فأرسلنا عليهم ) بدل ( فأنزلنا على الذين ظلموا ) ، وإثبات ذلك هنا ، وناسب الإسهاب هنا والاختصار هناك .
والزيادة ارتفاع عن القدر المعلوم ، وضده النقص . ( المحسنين ) ، قيل : الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة ، وقيل : المحسنين منهم ، فقيل : معناه من أحسن منهم بعد ذلك زدناه ثوابا ودرجات ، وقيل : معناه من كان محسنا منهم زدنا في إحسانه ، ومن كان مسيئا بعد ذلك زدناه ثوابا ودرجات ، وقيل : معناه من كان محسنا منهم زدنا في إحسانه ، ومن كان مسيئا مخطئا نغفر له خطيئته ، وكانوا على هذين الصنفين ، فأعلمهم الله أنهم إذا فعلوا ما أمروا به من دخولهم الباب سجدا وقولهم حطة يغفر ويضاعف ثواب محسنهم . وقيل : المحسنون من دخل ، كما أمر وقال : لا إله إلا الله ، فتلخص أن المحسنين إما من غيرهم أو منهم . فمنهم إما من اتصف بالإحسان في الماضي ، أي كان محسنا ، أو في المستقبل ، أي من أحسن منهم بعد ، أو في الحال ، أي وسنزيدكم بإحسانكم في امتثالكم ما أمرتم به من دخول الباب سجدا والقول حطة ، وهذه الجملة معطوفة على : ( وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ) ، وليست معطوفة على ( نغفر ) فتكون جوابا ، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الأعراف في قوله سنزيد ؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيبا على دخول الباب سجدا والقول حطة ، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله .