( ومن يغفر الذنوب إلا الله ) جملة اعتراض بين المتعاطفين ، أو بين ذي الحال والحال . وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة إعرابا في قوله : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) وهذه الجملة الاعتراضية فيها ترفيق للنفس ، وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه ، واختصاصه بغفران الذنب . قال : وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب ؛ لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز . وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط . وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل ، وكرمه أعظم . والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة . انتهى . وهو كلام حسن ، غير أنه لم يخرج عن ألفاظ الزمخشري المعتزلة في قوله : وإن عدله يوجب المغفرة [ ص: 60 ] للتائب . وفي قوله : وجب العفو والتجاوز ، ولو لم نعلم أن مذهبه الاعتزال لتأولنا كلامه بأن هذا الوجوب هو بالوعد الصادق ، فهو من جهة السمع لا من جهة العقل فقط .
( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) أي ولم يقيموا على قبيح فعلهم . وهذه الجملة معطوفة على " فاستغفروا " ، فهي من بعض أجزاء الجزاء المترتب على الشرط . ويجوز أن تكون الواو للحال ويكون حالا من الفاعل في " فاستغفروا " فهي من بعض أجزاء الجزاء ، أي : فاستغفروا لذنوبهم غير مصرين . وما موصولة اسمية ، ويجوز أن تكون مصدرية .
قال قتادة : الإصرار المضي في الذنب قدما . وقال الحسن : هو إتيان الذنب حتى يتوب . وقال مجاهد : لم يصروا : لم يمضوا . وقال : هو ترك الاستغفار والسكوت عنه مع الذنب . والجملة من قوله : وهم يعلمون قال السدي : حال من فعل الإصرار ، وحرف النفي منصب عليهما معا ، والمعنى : وليسوا ممن يصر على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها ؛ لأنه قد يعذر من لم يعلم قبح القبيح . الزمخشري
وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون ، وتائبون ، ومصرون . وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه . انتهى كلامه ، وآخره على طريقته الاعتزالية من أن من مات مصرا دخل النار ولا يخرج منها أبدا . وأجاز أبو البقاء أن يكون " وهم يعلمون " حالا من الضمير في فاستغفروا ، فإن أعربنا " ولم يصروا " جملة حالية من الضمير في " فاستغفروا " جاز أن يكون " وهم يعلمون " حالا منه أيضا . وإن كان ولم يصروا معطوفا على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء بعيدا للفصل بين ذي الحال والحال بالجملة . وأما متعلق العلم فتقدم في كلام . الزمخشري
وقال أبو البقاء : وهم يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها . وقال ابن عباس والحسن : وهم يعلمون أن تركه أولى من التمادي . وقال مجاهد وأبو عمارة : يعلمون أن الله يتوب على من تاب . وقال السدي ومقاتل : يعلمون أنهم قد أذنبوا . وقيل : يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها ، أطلق اسم العلم على الذكر ؛ لأنه من ثمرته . وقال : يعلمون ما حرمت عليهم . وقال ابن إسحاق : يعلمون أن لهم ربا يغفر الذنب . وقال الحسين بن الفضل ابن بحر : يعلمون بالذنب . وقيل : يعلمون العفو عن الذنوب وإن كثرت .