( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ) في التجارة الحاضرة قولان : أحدهما : ما يعجل ولا يدخله أجل من بيع وثمن . والثاني : ما يجوزه المشتري من العروض [ ص: 353 ] المنقولة ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل : كالمطعوم ، بخلاف الأملاك ، ولهذا قال ، السدي والضحاك : هذا فيما إذا كان يدا بيد تأخذه وتعطي . وفي معنى الإدارة ، قولان : أحدهما : يتناولونها من يد إلى يد ، والثاني : يتبايعونها في كل وقت ، والإدارة تقتضي التقابض والذهاب بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض ، وكثير من الحيوان لا تقوي البينونة ، ولا يعاب عليها حسن الكتب والإشهاد فيها ، ولحقت بمبايعة الديون ، ولما كانت الكتابة في التجارة الحاضرة الدائرة بينهم شاقة ، رفع الجناح عنهم في تركها ؛ ولأن ما بيع نقدا يدا بيد لا يكاد يحتاج إلى كتابة ، إذ ، إذ بتأجيلها يقع الوهم في مقدارها وصفتها وأجلها ، وهذا مفقود في مبايعة التاجر يدا بيد . وهذا الاستثناء في قوله : ( مشروعية الكتابة إنما هي لضبط الديون إلا أن تكون ) منقطع ؛ لأن ما بيع لغير أجل مناجزة لم يندرج تحت الديون المؤجلة ، وقيل : هو استثناء متصل ، وهو راجع إلى قوله : ( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) إلا أن يكون الأجل قريبا ، وهو المراد من التجارة الحاضرة ، وقيل : هو متصل راجع إلى قوله : ( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ) وقرأ عاصم ( تجارة حاضرة ) بنصبهما على أن كان ناقصة ، التقدير : إلا أن تكون هي أي : التجارة . وقرأ الباقون برفعهما على أن يكون ( تكون ) تامة ، و ( تجارة ) فاعل بـ ( تكون ) وأجاز بعضهم أن ( تكون ) ناقصة وخبرها الجملة من قوله : ( تديرونها بينكم ) ونفي الجناح هنا معناه لا مضرة عليكم في ترك الكتابة ، هذا على مذهب أكثر المفسرين ؛ إذ الكتابة عندهم ليست واجبة ، ومن ذهب إلى الوجوب فمعنى ( لا جناح ) لا إثم .
( وأشهدوا إذا تبايعتم ) هذا أمر مطلقا ، ناجزا أو كالئا ؛ لأنه أحوط وأبعد مما عسى أن يقع في ذلك من الاختلاف ، وقيل : يعود إلى التجارة الحاضرة ، لما رخص في ترك الكتابة أمروا بالإشهاد . بالإشهاد على التبايع
قيل : وهذه الآية منسوخة بقوله : ( فإن أمن بعضكم بعضا ) روي ذلك عن الجحدري ، والحسن ، وعبد الرحمن بن يزيد ، والحكم ، وقيل : هي محكمة ، والأمر في ذلك على الوجوب قال ذلك ، أبو موسى الأشعري ، وابن عمر والضحاك ، ، وابن المسيب ، وجابر بن زيد ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، ، والشعبي والنخعي ، وداود بن علي ، وابنه أبو بكر ، . والطبري
قال الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل . وقال عطاء : أشهد إذا بعت أو اشتريت بدرهم ، أو نصف درهم ، أو ثلاث دراهم ، أو أقل من ذلك . وقال : لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد ، وإلا كان مخالفا لكتاب الله عز وجل . وذهب الطبري الحسن وجماعة إلى أن هذا الأمر على الندب والإرشاد لا على الحتم ، قال ابن العربي : وهذا قول الكافة .
( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) هذا نهي ، ولذلك فتحت الراء ؛ لأنه مجزوم ، والمشدد إذا كان مجزوما كهذا كانت حركته الفتحة لخفتها ؛ لأنه من حيث أدغم لزم تحريكه ، فلو فك ظهر فيه الجزم ، واحتمل هذا الفعل أن يكون مبنيا للفاعل فيكون الكاتب والشهيد قد نهيا أن يضارا أحدا ؛ بأن يزيد الكاتب في الكتابة أو يحرف ، وبأن يكتم الشاهد الشهادة ، أو يغيرها أو يمتنع من أدائها ، قال معناه الحسن ، ، وطاوس وقتادة ، وابن زيد واختاره : لقوله بعد : ( الزجاج وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة ، ويمتنع من الشهادة ، حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أبرم الكاتب والشهيد ، ولأنه تعالى قال ، فيمن يمتنع من أداء الشهادة : ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) والآثم والفاسق متقاربان ، وقال ، ابن عباس ومجاهد ، وعطاء : بأن يقولا : علينا شغل ولنا حاجة .
واحتمل أن يكون مبنيا للمفعول ، فنهي أن يضارهما أحد بأن يعنتا ، ويشق عليهما في ترك أشغالهما ، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة ، قال معناه أيضا ، ابن عباس ومجاهد ، وطاوس ، والضحاك ، والسدي ، ويقوي هذا الاحتمال قراءة عمر : [ ص: 354 ] ( ولا يضارر ) بالفك وفتح الراء الأولى ، رواها الضحاك عن ، ابن مسعود وابن كثير عن مجاهد ، واختاره ؛ لأن الخطاب من أول الآيات إنما هو للمكتوب له ، وللمشهود له ، وليس للشاهد والكاتب خطاب تقدم ، إنما رده على أهل الكتابة والشهادة ، فالنهي لهم أبين أن لا يضار الكاتب والشهيد فيشغلونهما عن شغلهما ، وهم يجدون غيرهما ، ورجح هذا القول بأنه لو كان خطابا للكاتب والشهيد لقيل : وإن تفعلا فإنه فسوق بكما ، وإذا كان خطابا للمداينين فالمنهيون عن الضرار هم ، وحكى الطبري أبو عمرو الذاني عن عمر ، ، وابن عباس ومجاهد ، وابن أبي إسحاق : أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضا فتحها ، وفك الفعل ، والفك لغة الحجاز ، والإدغام لغة تميم .
وقرأ ابن القعقاع ، : ولا ( يضار ) بجزم الراء ، وهو ضعيف ؛ لأنه في التقدير جمع بين ثلاث سواكن ، لكن الألف لمدها يجري مجرى المتحرك ، فكأنه بقي ساكنان ، والوقف عليه ممكن ، ثم أجريا الوصل مجرى الوقف . وعمرو بن عبيد
وقرأ عكرمة ( ولا يضارر ) بكسر الراء الأولى والفك ( كاتبا ولا شهيدا ) بالنصب أي : لا يبدأهما صاحب الحق بضرر .
ووجوه المضارة لا تنحصر ، وروى مقسم عن عكرمة أنه قرأ ( ولا يضار ) بالإدغام وكسر الراء لالتقاء الساكنين ، وقرأ ابن محيصن ( ولا يضار ) برفع الراء المشددة ، وهي نفي معناه النهي ، وقد تقدم تحسين مجيء النهي بصورة النفي ، وذلك أن النهي إنما يكون عن ما يمكن وقوعه ، فإذا برز في صورة النفي كان أبلغ ؛ لأنه صار مما لا يقع ، ولا ينبغي أن يقع .
( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) ظاهره أن مفعول ( تفعلوا ) المحذوف راجع إلى المصدر المفهوم من قوله ( ولا يضار ) وإن تفعلوا لمضارة أو الضرار فإنه - أي : الضرار - فسوق بكم ، أي : ملتبس بكم ، أو تكون الباء ظرفية ، أي : فيكم ، وهذا أبلغ ؛ إذ جعلوا محلا للفسق .
والخطاب في ( تفعلوا ) عائد على الكاتب والشاهد ، إذ كان قوله : ( ولا يضار ) قد قدر مبنيا للفاعل ، وأما إذا قدر مبنيا للمفعول فالخطاب للمشهود لهم ، وقيل : هو راجع إلى ما وقع النهي عنه ، والمعنى : وإن تفعلوا شيئا مما نهيتكم عنه ، أو تتركوا شيئا مما أمرتكم به ، فهو عام في جميع التكاليف ، فإنه فسوق بكم ، أي : خروج عن أمر الله وطاعته .
( واتقوا الله ) أي : في ترك الضرار ، أو في جميع أوامره ونواهيه . ولما كان قوله : ( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) خطابا على سبيل الوعيد ، أمر بتقوى الله حتى لا يقع في الفسق .
( ويعلمكم الله ) هذه جملة تذكر بنعم الله التي أشرفها : التعليم للعلوم ، وهي جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع نصب على الحال من الفاعل في ( واتقوا ) تقديره : واتقوا الله مضمونا لكم التعليم والهداية ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون حالا مقدرة ، انتهى . وهذا القول - أعني : الحال _ ضعيف جدا ؛ لأن المضارع الواقع حالا ، لا يدخل عليه واو الحال إلا فيما شذ من نحو : قمت وأصك عينه ، ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ .
( والله بكل شيء عليم ) إشارة إلى إحاطته تعالى بالمعلومات ، فلا يشذ عنه منها شيء ، وفيها إشعار بالمجازاة للفاسق والمتقي ، وأعيد لفظ الله في هذه الجمل الثلاث على طريق تعظيم الأمر ، جعلت كل جملة منها مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى ربط بالضمير ، بل اكتفي فيها بربط حرف العطف ، وليست في معنى واحد ، فالأولى : حث على التقوى . والثانية : تذكر بالنعم . والثالثة : تتضمن الوعد والوعيد ، وقيل : معنى الآية الوعد ، فإن من اتقى علمه الله ، وكثيرا ما يتمثل بهذه بعض المتطوعة من الصوفية الذين يتجافون عن الاشتغال بعلوم الشريعة ، من الفقه وغيره ، إذا ذكر له العلم ، والاشتغال به ، قالوا : قال الله : ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) ومن أين تعرف التقوى ؟ وهل تعرف إلا بالعلم ؟ .