( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة ، وذلك أنه لما ذكر حال آكل الربا ، وحال من عاد بعد مجيء الموعظة ، وأنه كافر أثيم ، ذكر ضد هؤلاء ليبين فرق ما بين الحالين ، وظاهر الآية العموم ، وقال : معناه أن الذين تابوا من أكل الربا وآمنوا بما أنزل عليهم ، وانتهوا عما نهوا عنه وعملوا الصالحات ، انتهى . ونص على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وإن كانا مندرجين في عموم الأعمال البدنية والمالية ، وألفاظ الآية تقدم تفسيرها . مكي
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ) قيل : نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف ، كانت لهم ديون ربا على بني المغيرة من بني مخزوم ، وقيل : في عباس ، وقيل : في عثمان ، وقال : في السدي عباس ، ، وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا ، وملخصه أنهم أرادوا أن يتقاضوا رباهم فنزلت ، ولما تقدم قوله : ( وخالد بن الوليد فله ما سلف ) وكان المعنى : فله ما سلف قبل التحريم ، أي : لا تبعة عليه فيما أخذه قبل التحريم ، واحتمل أن يكون قوله : ( ما سلف ) أي : ما تقدم العقد عليه ، فلا فرق بين المقبوض منه وبين ما في الذمة ، وإنما يمنع إنشاء عقد ربوي بعد التحريم ، أزال تعالى هذا الاحتمال بأن أمر بترك ما بقي من الربا في العقود السابقة ، قبل التحريم ، وأن ما بقي في الذمة من الربا هو كالمنشأ بعد التحريم ، وناداهم باسم الإيمان تحريضا لهم على قبول الأمر بترك ما بقي من الربا ، وبدأ أولا بالأمر بتقوى الله ، إذ هي أصل كل شيء ، ثم أمر ثانيا بترك ما بقي من الربا .
وفتحت عين : وذروا ، حملا على : دعوا ، وفتحت عين : دعوا ، حملا على : يدع ، وفتحت في يدع ، وقياسها الكسر ، إذ لامه حرف حلق ، وقرأ الحسن : ما بقا ، بقلب الياء ألفا ، وهي لغة لطيء ، ولبعض العرب ، وقال علقمة بن عبدة التميمي :
زها الشوق حتى ظل إنسان عينه يفيض بمغمور من الماء متأق
وروي عنه أيضا أنه قرأ ( ما بقي ) بإسكان الياء ، وقال الشاعر :
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
وقال جرير :
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
( إن كنتم مؤمنين ) تقدم أنهم مؤمنون بخطاب الله تعالى لهم : ( ياأيها الذين آمنوا ) وجمع بينهما بأنه شرط مجازي على جهة المبالغة ، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه : إن كنت رجلا فافعل كذا ، قاله ابن عطية ، أو بأن المعنى : إن صح إيمانكم ، يعني أن دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أمرتم به من ذلك ، قاله ، وفيه دسيسة اعتزال ؛ لأنه إذا توقفت صحة الإيمان على ترك هذه المعصية فلا يجامعها الصحة مع فعلها ، وإذا لم يصح إيمانه لم يكن مؤمنا ، وهو مدعى الزمخشري المعتزلة ، وقيل : إن بمعنى إذ أي : إذ كنتم مؤمنين ، قاله ، وهو قول لبعض النحويين أن ( إن ) تكون بمعنى : إذ ، وهو ضعيف [ ص: 338 ] مردود ولا يثبت في اللغة ، وقيل : هو شرط يراد به الاستدامة ، وقيل : يراد به الكمال ، وكأن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة ، وإنما يصير مؤمنا بالإطلاق إذا اجتنب الكبائر ، هذا وإن كانت الدلائل قد قامت على أن حقيقة الإيمان لا يدخل العمل في مسماها ، وقيل : الإيمان متغاير بحسب متعلقه ، فمعنى الأول : ( مقاتل بن سليمان ياأيها الذين آمنوا ) بألسنتهم ، ومعنى الثاني : ( إن كنتم مؤمنين ) بقلوبكم ، وقيل : يحتمل أن يريد : يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء ، ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بمحمد ؛ إذ لا ينفع الأول إلا بهذا ، قاله . ابن فورك
قال ابن عطية : وهو مردود بما روي في سبب الآية ، انتهى . يعني أنها نزلت في عباس ، وعثمان ، أو في عباس ، وخالد ، أو فيمن أسلم من ثقيف ولم يكونوا هؤلاء قبل الإيمان آمنوا بأنبياء ، وقيل : هو شرط محض في ثقيف على بابه ؛ لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام ، انتهى . وعلى هذا ليس بشرط صحيح إلا على تأويل استدامة الإيمان ، وذكر ابن عطية : أن أبا السماك ، وهو العدوي ، قرأ هنا ( من الربو ) بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو ، وقد ذكرنا قراءته كذلك في قوله : ( الذين يأكلون الربا ) وشيئا من الكلام عليها .
وقال أبو الفتح : شذ هذا الحرف في أمرين ، أحدهما : الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما ، والآخر : وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم ، وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل ، نحو : يغزو ، ويدعو .
وأما ذو الطائية ، بمعنى : الذي فشاذة جدا ، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع ، فتقول : رأيت ذا قام ، وجه القراءة أنه فخم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم : الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة ، انتهى كلام أبي الفتح .
ويعني بقوله : بناء لازما ، أنه قد يكون ذلك عارضا نحو : الحبك ، فكسرة الحاء ليست لازمة ، ومن قولهم : الردء ، في الوقف ، فضمة الدال ليست لازمة ، ولذلك لم يوجد في أبنية كلامهم فعل لا في اسم ولا فعل ، وأما قوله : وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل ، نحو : يغزو ، فهذا كما ذكر إلا أنه جاء ذلك في الأسماء الستة في حالة الرفع ، فله أن يقول : لما لم يكن ذلك لازما في النصب والجر ، لم يكن ناقضا لما ذكروا ، ونقول : إن الضمة التي فيما قبل الآخر إما هي للاتباع ، فليس ضمة تكون في أصل بنية الكلمة كضمة يغزو .
( فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) ظاهره : فإن لم تتركوا ما بقي من الربا ، وسمي الترك فعلا ، وإذا أمروا بترك ما بقي من الربا من ذلك الأمر بترك إنشاء الربا على طريق الأولى والأحرى ، وقال الرازي : فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، ومن ذهب إلى هذا قال : فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام خرج من الملة كما لو كفر بجميعها .
وقرأ حمزة ، وأبو بكر في غير رواية البرجمي ، عنه ( فآذنوا ) أمر من : آذن الرباعي بمعنى : أعلم ، مثل قوله : ( وابن غالب فقل آذنتكم على سواء ) ، وقرأ باقي السبعة : ( فأذنوا ) أمر من : أذن ، الثلاثي ، مثل قوله : ( لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ) ، وقرأ الحسن ( فأيقنوا بحرب ) والظاهر أن الخطاب في قوله : ( فإن لم تفعلوا ) هو لمن صدرت الآية بذكره ، وهم المؤمنون ، وقيل : الخطاب للكفار الذين يستحلون الربا ، فعلى هذا المحاربة ظاهرة ، وعلى الأول فالإعلام أو العلم بالحرب جاء على سبيل المبالغة في التهديد دون حقيقة الحرب ، كما جاء : " من أهان لي وليا فقد آذنني بالمحاربة " . وقيل : المراد نفس الحرب .
ونقول : الإصرار على الربا إن كان ممن يقدر عليه الإمام ، قبض عليه الإمام وعزره وحبسه إلى أن يظهر منه التوبة ، أو ممن لا يقدر عليه ، حاربه كما تحارب الفئة الباغية . وقال : من عامل بالربا يستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه . ابن عباس
ويحمل قوله هذا على من يكون مستبيحا للربا ، مصرا على ذلك ، ومعنى الآية : فإن لم تنتهوا حاربكم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل : المعنى : فأنتم حرب الله ورسوله ، [ ص: 339 ] أي : أعداء ، والحرب داعية القتل ، وقالوا : حرب الله النار ، وحرب رسوله السيف .
وروي عن أنه : " يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب " والباء في بحرب على قراءة القصر للإلصاق ، تقول : أذن بكذا ، أي : علم ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : المعنى فاستيقنوا بحرب من الله ، وقال ابن عباس : وهو من الأذن ، وهو الاستماع ؛ لأنه من طريق العلم ، انتهى . الزمخشري
وقراءة الحسن تقوي قراءة الجمهور بالقصر ، وقال ابن عطية : هي عندي من الإذن ، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه ، فكأنه قيل لهم : قرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله .
ويلزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون ، إذ هم الآذنون فيها وبها ، ويندرج في هذا علمهم بأنه حرب الله ، وتيقنهم لذلك ، انتهى كلامه . فيظهر منه أن الباء في : ( بحرب ) ظرفية ، أي : فأذنوا في حرب ، كما تقول : أذن في كذا ، ومعناه أنه سوغه ومكن منه .
قال أبو علي : ومن قرأ ( فآذنوا ) بالمد ، فتقديره : فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب ، والمفعول محذوف ، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى : ( فقل آذنتكم على سواء ) وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة ، قال : ففي إعلامهم علمهم ، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم ، فقراءة المد أرجح ؛ لأنها أبلغ وآكد .
وقال : قراءة القصر أرجح ؛ لأنها تختص بهم ، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم ، وقال الطبري ابن عطية : والقراءتان عندي سواء ؛ لأن المخاطب محصور ، لأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا ، فإن قيل : فأذنوا ، فقد عمهم الأمر ، وإن قيل : فآذنوا ، بالمد فالمعنى : أنفسكم ، أو بعضكم بعضا ، وكأن هذه القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء والتثبت ، فأعلموا نفوسكم هذا ، ثم انظروا في الأرجح لكم : ترك الربا أو الحرب ، انتهى ، وروي : أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يد لنا بحرب الله ورسوله .
ومن ، في قوله : ( من الله ) لابتداء الغاية ، وفيه تهويل عظيم ، إذ الحرب من الله تعالى ومن نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يطيقه أحد ، ويحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف ، أي : من حروب الله ، قال : فإن قلت : هلا قيل : بحرب الله ورسوله ؟ قلت : كان هذا أبلغ ؛ لأن المعنى : فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله ، انتهى . وإنما كان أبلغ ؛ لأن فيها نصا بأن الحرب من الله لهم ، فالله تعالى هو الذي يحاربهم ، ولو قيل : بحرب الله ، لاحتمل أن تكون الحرب مضافة للفاعل ، فيكون الله هو المحارب لهم ، وأن تكون مضافة للمفعول ، فيكونوا هم المحاربين الله ، فكون الله محاربهم أبلغ وأزجر في الموعظة من كونهم محاربين الله . الزمخشري
( وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم ) أي : إن تبتم من الربا ، ورءوس الأموال : أصولها ، وأما الأرباح فزوائد وطوارئ عليها . قال بعضهم : إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله واستحلال ما حرم الله ، فيصير مالهم فيئا للمسلمين ، وفي الاقتصار على رءوس الأموال مع ما قبله دليل واضح على أنه ليس لهم إلا ذلك ، ومفهوم الشرط أنه : إن لم يتوبوا فليس لهم رءوس أموالهم ، وتسمية أصل المال رأسا مجاز .
( لا تظلمون ولا تظلمون ) قرأ الجمهور الأول مبنيا للفاعل ، والثاني مبنيا للمفعول ، أي : لا تظلمون الغريم بطلب زيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال ، وقيل : بالمطل ، وقرأ أبان ، والمفضل ، عن عاصم الأول مبنيا للمفعول ، والثاني مبنيا للفاعل ، ورجح أبو علي قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله : وإن تبتم ، في إسناد الفعلين إلى الفاعل ، فتظلمون بفتح التاء أشكل بما قبله ، والجملة يظهر أنها مستأنفة ، وإخبار منه تعالى أنهم إذا اقتصروا على رءوس الأموال كان ذلك نصفة ، وقيل : الجملة حال من المجرور في : لكم ، والعامل في الحال ما في حرف الجر من شوب الفعل ، قاله الأخفش .