والعامل في ( إذ ) - على ما قالوا - محذوف ، تقديره : واذكر إذ قال ، وقيل : العامل مذكور وهو ( ألم تر ) المعنى : ألم تر إذ قال ، وهو مفعول : بـ ( تر ) والذي يظهر أن العامل في ( إذ ) قوله : ( قال أولم تؤمن ) كما قررنا ذلك في قوله : ( وإذ قال ربك للملائكة ) وفي افتتاح السؤال بقوله : ( رب ) حسن استلطاف واستعطاف للسؤال ، وليناسب قوله لنمروذ ( ربي الذي يحيي ويميت ) لأن الرب هو الناظر في حاله ، والمصلح لأمره ، وحذفت ياء الإضافة اجتزاء بالكسرة ، وهي اللغة الفصحى في نداء المضاف لياء المتكلم ، وحذف حرف النداء للدلالة عليه ، و ( أرني ) سؤال رغبة ، وهو معمول لـ ( قال ) والرؤية هنا بصرية ، دخلت على رأى همزة النقل ، فتعدت لاثنين : أحدهما ياء المتكلم ، والآخر الجملة الاستفهامية ، فقول : ( كيف تحي الموتى ) في موضع نصب ، وتعلق العرب رأى البصرية ، من كلامهم ، أما ترى أي برق هاهنا ، كما علقت : نظر البصرية ، وقد تقرر .
وعلم أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة إجماعا ، قاله ابن عطية ، والذي اخترناه أنهم معصومون من الكبائر والصغائر على الإطلاق ، وإذا كان كذلك ، فقد تكلم بعض المفسرين هنا في حق من سأل الرؤية هنا بكلام ضربنا عن ذكره صفحا ، ونقول : ألفاظ الآية لا تدل على عروض شيء يشين المعتقد ؛ لأن ذلك سؤال أن يريه عيانا كيفية إحياء الموتى ؛ لأنه لما علم ذلك بقلبه وتيقنه ، واستدل به على نمروذ في قوله : ( ربي الذي يحيي ويميت ) طلب من الله تعالى رؤية ذلك ، لما في معاينة ذلك من رؤية اجتماع الأجزاء المتلاشية ، والأعضاء المتبددة ، والصور المضمحلة ، واستعظام باهر قدرته تعالى . والسؤال عن الكيفية يقتضي تيقن ما سأل عنه : وهو الإحياء وتقرره ، والإيمان به ، وأنه مما انطوى الضمير على اعتقاده ، وأما ما ذكره الماوردي عن بعض أهل المعاني : أن إبراهيم سأل من ربه كيف يحيي القلوب ، فتأويل ليس بشيء ، قالوا في سبب سؤاله أقوال : أحدها : أنه رأى دابة قد توزعتها السباع والحيتان ؛ لأنها كانت على حاشية البحر ، قاله ابن زيد ، أو الفكر في الحقيقة والمجاز لما قاله نمروذ : ( أنا أحيي وأميت ) قاله ، أو التجربة للخلة من الله إذ بشر بها ؛ لأن الخليل يدل بما لا يدل غيره ، قاله ابن إسحاق ابن جبير .
( قال أولم تؤمن ) الضمير في ( قال ) عائد على الرب ، والهمزة للتقرير ، كقوله :
ألستم خير من ركب المطايا
وقوله تعالى : ( ألم نشرح لك صدرك ) المعنى : أنتم خير ، وقد شرحنا لك صدرك ، وكذلك هذا معناه : قد آمنت بالإحياء . قال ابن عطية : إيمانا مطلقا دخل فيه فعل إحياء الموتى ، والواو واو حال ، دخلت عليها ألف التقرير ، [ ص: 298 ] انتهى كلامه . وكون الواو هنا للحال غير واضح ؛ لأنها إذا كانت للحال فلا بد أن يكون في موضع نصب ، وإذ ذاك لا بد لها من عامل ، فلا تكون الهمزة للتقرير دخلت على هذه الجملة الحالية ، إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها وعلى ذي الحال ، ويصير التقدير : أسألت ولم تؤمن ؟ أي : أسألت في هذه الحال ؟
والذي يظهر أن التقرير إنما هو منسحب على الجملة المنفية ، وأن الواو للعطف ، كما قال : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ) ونحوه ، واعتنى بهمزة الاستفهام فقدمت ، وقد تقدم لنا الكلام في هذا ، ولذلك كان الجواب بـ ( بلى ) في قوله : ( قال بلى ) وقد تقرر في علم النحو أن جواب التقرير المثبت - وإن كان بصورة النفي - تجريه العرب مجرى جواب النفي المحض ، فتجيبه على صورة النفي ، ولا يلتفت إلى معنى الإثبات ، وهذا مما قررناه ، أن في كلام العرب ما يلحظ في اللفظ دون المعنى ، ولذلك علة ذكرت في علم النحو ، وعلى ما قاله ابن عطية من أن الواو للحال لا يتأتى أن يجاب العامل في الحال بقوله : بلى ؛ لأن ذلك الفعل مثبت مستفهم عنه ، فالجواب إنما يكون في التصديق : بنعم ، وفي غير التصديق : بلا ، أما أن يجاب بـ ( بلى ) ، فلا يجوز ، وهذا على ما تقرر في علم النحو .
( قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) . قال : فإن قلت : كيف قال ( أولم تؤمن ) وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا ؟ قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين ، و ( بلى ) إيجاب لما بعد النفي ، معناه : بلى آمنت ( ولكن ليطمئن قلبي ) ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة - علم الاستدلال - ، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب ، وأزيد للبصيرة واليقين ؛ ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك ، بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك ، انتهى كلامه . الزمخشري
وليس علم الاستدلال يجوز معه التشكيك كما قال ، بل منه ما يجوز معه التشكيك ، أما إذا كان عن مقدمات صحيحة فلا يجوز معه التشكيك ، كعلمنا بحدوث العالم ، وبوحدانية الموجد ، فمثل هذا لا يجوز معه التشكيك .
وقال ابن عطية : ( ليطمئن ) معناه : ليسكن عن فكره في الشيء المعتقد ، والفكر في صورة الإحياء غير محظور ، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، بل هي فكر فيها عبر ، إذ حركه إلى ذلك ، إما أمر الدابة المأكولة ، وإما قول النمروذ ( أنا أحيي وأميت ) . [ ص: 299 ] انتهى كلامه . وهو حسن .
واللام في قوله : ليطمئن ، متعلقة بمحذوف بعد ( لكن ) التقدير : ولكن سألت مشاهدة الكيفية لإحياء الموتى ليطمئن قلبي ، فيقتضي تقدير هذا المحذوف تقدير محذوف آخر قبل ( لكن ) حتى يصح الاستدراك ، التقدير : ( قال بلى ) أي : آمنت ، وما سألت عن غير إيمان ، ولكن سألت ليطمئن قلبي .
وروي عن ابن جبير ، و إبراهيم ، وقتادة : ليزداد يقينا ، وعن بعضهم : لأزداد إيمانا مع إيماني . قال ابن عطية : ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر ، وإلا فاليقين لا يتبعض ، انتهى .
وقال النصراباذي : حن الخليل إلى صنع خليله ولم يتهمه في أمره ، فكأنه قوله الشوق ( أرني ) كما قال موسى - عليه السلام - ثم تعلل برؤية الصنع له تأدبا ، وحكى القشيري أنه قيل : استجلب خطابا بهذه المقالة ، حتى قال له الحق : ( أولم تؤمن ) ( قال بلى ) آمنت ولكن اشتقت إلى قولك : ( أولم تؤمن ) فإني بقولك : ( أولم تؤمن ) يطمئن قلبي ، والمحب أبدا يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه .
( قال فخذ أربعة من الطير ) لما سأل رؤية كيفية إحياء الموتى أجابه تعالى لذلك ، وعلمه كيف يصنع أولا ، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير ، ولم يذكر الله تعالى تعيين الأربعة من أي جنس هي من الطير ، فيحتمل أن يكون المأمور به معينا ، وما ذكر تعيينه ، ويحتمل أن يكون أمر بأخذ أربعة ، أي : أربعة كانت من غير تعيين ؛ إذ لا كبير علم في ذكر التعيين ، وقد اختلفوا فيما أخذ ، فقال : أخذ طاوسا ونسرا وديكا وغرابا . وقال ابن عباس مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، ، وابن جريج وابن زيد : كذلك ، إلا أنهم جعلوا حمامة بدل النسر . وقال أيضا ، فيما روى ابن عباس عبد الرحمن بن هبيرة عنه : أخذ حمامة وكركيا وديكا وطاوسا ، وقال في رواية الضحاك : أخذ طاوسا وديكا ودجاجة سندية وأوزة ، وقال في رواية أخرى عن الضحاك : أنه مكان الدجاجة السندية الرأل ، وهو فرخ النعام ، وقال مجاهد فيما روى ليث : ديك وحمامة وبطة وطاوس ، وقال : ديك وحمامة وبطة وغراب . وزاد وصفا في هذه الأربعة فقال : ديك أحمر ، وحمامة بيضاء ، وبطة خضراء ، وغراب أسود . وقال عطاء الخراساني أبو عبد الله : طاوس وحمامة وديك وهدهد ، ولما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى ، وكان لفظ الموتى جمعا ، أجيب بأن يأخذ ما مدلوله جمع ، لا أن يأخذ واحدا ، قيل : وخص هذا العدد بعينه إشارة إلى الأركان الأربعة التي في تركيب أبدان الحيوانات والنباتات ، وكانت من الطير ، قيل : لأن الطير همته الطيران في السماء والارتفاع ، والخليل - عليه السلام - كانت همته العلو والوصول إلى الملكوت ، فجعلت معجزته مشاكلة لهمته ، وعلى القول الأول في تعيين الأربعة بما عين قيل : خص الطاووس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع . والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل وطول الأمل . والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء شهوة النكاح . والغراب إشارة إلى شدة الحرص والطلب ، وما أبدوه في تخصيص الأربعة وفي تعيينها لا تكاد تظهر حكمته فيما ذكروه ، وما أجراه الله تعالى لأنبيائه من الخوارق مختلف ، وحكمة اختصاص كل نبي بما أجرى الله له منها مغيبة عنا ، ألا ترى خرق العادة لموسى في أشياء ، ولعيسى في أشياء غيرها ، ولرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم في أشياء لا يظهر لنا سر الحكمة في ذلك ؟ فكذلك كون هذه الأربعة من الطير ، لا يظهر لنا سر حكمته في ذلك ، وأمره بالأخذ للطيور وهو إمساكها بيده ليكون أثبت في المعرفة بكيفية الإحياء ؛ لأنه يجتمع عليه حاسة الرؤية ، وحاسة اللمس .
والطير اسم جمع لما لا يعقل ، يجوز تذكيره وتأنيثه ، وهنا أتى مذكرا لقوله تعالى : ( وخذ أربعة من الطير ) وجاء على الأفصح في اسم الجمع في العدد حيث فصل بمن ، فقيل : أربعة من الطير يجوز الإضافة ، كما قال تعالى : ( تسعة رهط ) ونص بعض أصحابنا على أن الإضافة لاسم الجمع في العدد نادرة لا يقاس عليها ، ونص بعضهم على أن اسم الجمع لما لا يعقل [ ص: 300 ] مؤنث ، وكلا القولين غير صواب .