[ ص: 119 ]
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
ويشري : عبارة عن أن يبذل نفسه في الله ، ومنه تسمى الشراة ، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله ، وقال قوم : شرى ، بمعنى : اشترى ، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه : حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها . وانتصاب " ابتغاء " على أنه مفعول من أجله ، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم ، إنما هو طلب رضى الله تعالى ، وهو مستوف لشروط المفعول من أجله من كونه مصدرا متحد الفاعل والوقت ، وهذه الإضافة ، أعني إضافة المفعول من أجله ، هي محضة ، خلافا للجرمي ، والرياشي ، ، وبعض المتأخرين ، فإنهم يزعمون أنها إضافة غير محضة ، وهذا مذكور في كتب النحو . والمبرد
و " مرضاة " : مصدر بني على التاء كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ، كما تقول مرمى ومغزى ، وأمال : " مرضاة " ، وعن الكسائي خلاف في إمالة " مرضاة " ، وقرأنا له بالوجهين ، ووقف حمزة عليها بالتاء ، ووقف الباقون بالهاء . فأما وقف ورش حمزة بالتاء فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون على مذهب من يقف من العرب على طلحة ، وحمزة ، بالتاء ، كالوصل ، وهو كان القياس دون الإبدال . قال :
دار لسلمى بعد حول قد عفت بل جوز تيهاء كظهر الحجفت
وقد حكى هذه اللغة . سيبويه
والوجه الآخر : أن تكون على نية الإضافة ، كأنه نوى تقدير المضاف إليه ، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة ، وأن المضاف إليه مراد ، كإشمام من أشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة ، وفي قوله : ( ابتغاء مرضاة الله ) ، إشارة إلى حصول أفضل ما عند الله للشهداء ، وهو رضاه تعالى . وفي الحديث الصحيح ، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى ، حين يسألهم هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد أدخلتنا جنتك وباعدتنا من نارك ؟ فيقول : ولكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : يا ربنا ، وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده .
( والله رءوف بالعباد ) : حيث كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء ، قاله . وقال الزمخشري ابن عطية : ترجئة تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية ، كما في قوله : ( فحسبه جهنم ) ، تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم ، وتقدم أن الرأفة أبلغ من الرحمة .
والعباد إن كان عاما ، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم ، وتيسير أرزاقهم لهم ، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته ، ورفع درجاتهم في الجنة . وإن كان خاصا ، وهو الأظهر : لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله : ( فحسبه جهنم ) ، وكان ذلك خاصا بأولئك الكفار ، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب وجزيل المآب ، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك ، فصار ذلك كناية عن إحسان الله إليهم : لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان ، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة ، ولذلك كانت الكناية أبلغ ، ويكون إذ ذاك في لفظ " العباد " التفاتا ، إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر ، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان : والله رءوف به أو بهم ، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان ، أحدهما : أن لفظ " العباد " له في استعمال القرآن تشريف واختصاص ، كقوله : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) ، ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) ، ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) ، ( بل عباد مكرمون ) . والثاني : مجيء اللفظة فاصلة : لأن قبله : ( والله لا يحب الفساد ) ( فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) ، فناسب : ( والله رءوف بالعباد ) .