ومناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات أنها من تمام الأحوال التي تعرض للصائم ، ولما كان افتتاح آيات الصوم بأنه : كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا ، اقتضى عموم التشبيه في الكتابة ، وفي العدد ، وفي الشرائط ، وسائر تكاليف الصوم . وكان أهل الكتاب قد أمروا بترك الأكل بالحل ، والشرب والجماع في صيامهم بعد أن يناموا ، وقيل : بعد العشاء ، وكان المسلمون كذلك ، فلما جرى لعمر وقيس ما ذكرناه في سبب النزول ، أباح الله لهم ذلك من أول الليل إلى طلوع الفجر : لطفا بهم . وناسب أيضا قوله تعالى في آخر آية الصوم : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، وهذا من التيسير .
وقوله " أحل " يقتضي أنه كان حراما قبل ذلك ، وقد تقدم نقل ذلك في سبب النزول ، لكنه لم يكن حراما في جميع الليلة ، ألا ترى أن ذلك كان حلالا لهم إلى وقت النوم أو إلى بعد العشاء ؟ وقرأ الجمهور " أحل " مبنيا للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وقرئ " أحل " مبنيا للفاعل ، ونصب " الرفث " به ، فإما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه ، إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله ، وإما أن يكون من باب الالتفات ، وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب : لأن قبله : ( فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي ) و " لكم " متعلق بأحل ، وهو التفات : لأن قبله ضمير غائب ، وانتصاب " ليلة " على الظرف ، ولا يراد بـ " ليلة " الوحدة بل الجنس ، قالوا : والناصب لهذا الظرف " أحل " وليس بشيء : لأن " ليلة " ليس بظرف لأحل ، إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث ، وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب " ليلة " بالرفث : لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا ، فلا يتقدم معموله ، لكن يقدر له ناصب ، وتقديره : الرفث ليلة الصيام ، فحذف ، وجعل المذكور مبنيا له كما قالوا في قوله :
وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان
إن تقديره : إذعان للذلة إذعان ، وكما خرجوا قوله : ( إني لكما لمن الناصحين ) ، و ( إني لعملكم من القالين ) أي ناصح لكما ، وقال " لعملكم " فما كان من الموصول قدم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول ، وقد تقدم أن من النحويين من يجيز تقدم الظرف على نحو هذا المصدر ، وأضيفت الليلة إلى الصيام على سبيل الاتساع : لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة ، ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلا بصوم جزء منها ، صحت الإضافة . وقرأ الجمهور " الرفث " وقرأ عبد الله " الرفوث " وكنى به هنا عن الجماع ، والرفث قالوا : هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ : النيك ، وعبر باللفظ القريب من لفظ النيك تهجينا لما وجد منهم ، إذ كان ذلك حراما عليهم ، فوقعوا فيه ، كما قال فيه : ( تختانون أنفسكم ) ، فجعل ذلك خيانة ، وعدي بإلى ، وإن كان أصله التعدية بالباء : لتضمينه معنى الإفضاء ، وحسن اللفظ به هذا التضمين ، فصار ذلك قريبا من الكنايات التي جاءت في القرآن من قوله : ( فلما تغشاها ) ، ( ولا تقربوهن ) ، ( فأتوا حرثكم ) ، ( فالآن باشروهن ) .
والنساء جمع الجمع ، وهو نسوة ، أو جمع امرأة على غير اللفظ ، وأضاف النساء إلى المخاطبين لأجل الاختصاص ، إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختصت [ ص: 49 ] بالمفضي : إما بتزويج أو ملك .
( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) ، اللباس ، أصله في الثوب ، ثم يستعمل في المرأة . قال أبو عبيدة : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك ، وإزارك لما بينهما من الممازجة . ولما كانا يعتنقان ويشتمل كل منهما صاحبه في العناق شبه كل منهما باللباس الذي يشتمل على الإنسان . قال الربيع : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن ، وقال مجاهد ، والسدي : هن سكن لكم ، أي : يسكن بعضكم إلى بعض ، كقوله : ( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا ) ، وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل هي مستأنفة كالبيان لسبب الإحلال ، وهو عدم الصبر عنهن لكونهن لكم في المخالطة كاللباس ، وقدم " هن لباس لكم " على قوله " وأنتم لباس لهن " : لظهور احتياج الرجل إلى المرأة وقلة صبره عنها ، والرجل هو البادئ بطلب ذلك الفعل ، ولا تكاد المرأة تطلب ذلك الفعل ابتداء لغلبة الحياء عليهن ، حتى أن بعضهن تستر وجهها عند المواقعة حتى لا تنظر إلى زوجها حياء وقت ذلك الفعل .
جمعت الآية ثلاثة أنواع من البيان : الطباق المعنوي ، بقوله : ( أحل لكم ) ، فإنه يقتضي تحريما سابقا ، فكأنه أحل لكم ما حرم عليكم ، أو ما حرم على من قبلكم ، والكناية بقوله " الرفث " وهو كناية عن الجماع ، والاستعارة البديعة بقوله : " هن لباس لكم " ، وأفرد اللباس لأنه كالمصدر ، تقول : لابست ملابسة ولباسا .