" ما أنزل الله من الكتاب " : ظاهره أنه أنزل من علو إلى أسفل ، وأنه تعالى أنزل ملكا به ، أي بالكتاب على رسوله . وقيل : معنى " أنزل الله " أي أظهر ، كقوله : ( سأنزل مثل ما أنزل الله ) ، أي أظهر . فكون المعنى : أن الذين يكتمون ما أظهر الله ، فيكون الإظهار في مقابلة الكتمان . وفي المراد بالكتاب هنا أقوال : أحدها : أنه التوراة ، فيكون الكاتمون أحبار اليهود ، كتموا - وغيروها ، وكتموا آيات في التوراة ، كآية الرجم وشبه ذلك . وقيل : التوراة والإنجيل ، ووحد اللفظ على المكتوب ، ويكون الكاتمون صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى . وصف الله نبيه في الكتابين ، ونعته فيهما وسماه فقال : ( يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) ، وقال : ( ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) . والطائفتان أنكروا صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد شهدت التوراة والإنجيل بذلك ، والنصوص موجودة فيهما الآن في مواضع منها في التوراة في الفصل التاسع ، وفي الفصل العاشر من السفر الأول ، وفي الفصل العشرين من السفر الخامس . ومنها في الإنجيل مواضع تدل على ذلك ، قد ذكر جميعها من تعرض للكلام على ذلك . وقيل : الكتاب المكتوب ، وهو أعم من التوراة والإنجيل ، فيتناول كل من كتم ما أنزل الله مما يتعلق بالأحكام قديما وحديثا ، وكل كاتم لحق وساتر لأمر مشروع .
( ويشترون به ثمنا قليلا ) : لما تعوضوا عن الكتم شيئا من سحت الدنيا ، أشبه ذلك البيع والشراء ; لانطوائهما على عوض ومعوض عنه ، فأطلق عليه اشتراء . و " به " : الضمير عائد على الكتمان أو الكتاب ، أو على الموصول الذي هو : ما أقوال ثلاثة ، أظهرها الآخر ، ويكون على حذف مضاف ، أي بكتم ما أنزل الله . والفرق بين هذا القول وقول من جعله عائدا على الكتم ، أنه يكون في ذلك القول عائدا على المصدر المفهوم من قوله : ( يكتمون ) ، وفي هذا عائدا على حذف مضاف ، وتقدم الكلام في تفسير قوله : ( ليشتروا به ثمنا قليلا ) ، فأغنى عن إعادته ، إلا فعل الاشتراء جعل علة هناك وهنا جعل معطوفا على قوله ( يكتمون ) ورتب الخبر على مجموع الأمرين [ ص: 492 ] من الكتم والاشتراء ; لأن الكتم ليست أسبابه منحصرة في الاشتراء ، بل الاشتراء بعض أسبابه . فكتم ما أنزل الله من الكتاب ، وهو أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنكار نبوته وتبديل صفته ، كان لأمور منها البغي ، ( بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ) . ومنها الخسارة لكونه من العرب لا منهم . ومنها طلب الرياسة ، وأن يستتبعوا أهل ملتهم . ومنها تحصيل أموالهم ورشاء ملوكهم وعوامهم .
( أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) : أتى بخبر إن جملة ; لأنها أبلغ من المفرد ، وصدر بأولئك ، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة . وقد تقدم لنا الكلام في ذلك في قوله : ( أولئك على هدى من ربهم ) . ثم أخبر عن أولئك بأخبار أربعة : الأول : ( ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) ، فمنهم من حمله على ظاهره وقال : إن ذلك يكون في الدنيا ، وإن الرشاء التي هم يأكلونها تصير في أجوافهم نارا ، فلا يحسون بها إلا بعد الموت . ومنع تعالى أن يدركوا أنها نار ، استدراجا وإملاء لهم . ويكون في هذا المعنى بعض تجوز ; لأنه حالة الأكل لم يكن نارا ، إنما بعد صارت في بطونهم نارا . وقيل : إن ذلك يكون في الآخرة ، فهو حقيقة أيضا . واختلفوا فقيل : جميع ما أكلوه من السحت والرشاء في الدنيا يجعل نارا في الآخرة ، ثم يطعمهم الله إياه في النار . وقيل : يأمر الزبانية أن تطعمهم النار ليكون عقوبة الأكل من جنسه . وأكثر العلماء على تأويل قوله : ( ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) ، على معنى : أنهم يجازون على ما اقترفوه من كتم ما أنزل الله والاشتراء به الثمن القليل ، بالنار . وإن ما اكتسبوه بهذه الأوصاف الذميمة مآله إلى النار . وعبر بالأكل ; لأنه أعظم منافع ما تصرف فيه الأموال . وذكر ( في بطونهم ) ، إما على سبيل التوكيد ، إذ معلوم أن الأكل لا يكون إلا في البطن ، فصار نظير : ( ولا طائر يطير بجناحيه ) . أو كناية عن ملء البطن ; لأنه يقال : فلان أكل في بطنه ، وفلان أكل في بعض بطنه . أو لرفع توهم المجاز ، إذ يقال : أكل فلان ماله إذ بذره ، وإن لم يأكله . وجعل المأكول النار ، تسمية له بما يؤول إليه ; لأنه سبب النار ، وذلك كما يقولون : أكل فلان الدم ، يريدون الدية ; لأنها بدل من الدم ، قال الشاعر :
فلو أن حيا يقبل المال فدية لسقنا إليه المال كالسيل مفعما ولكن لنا قوم أصيب أخوهم
رضا العار واختاروا على اللبن الدما
وقال آخر :
أكلت دما إن لم أرعك بضربة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وقال آخر :
تأكل كل ليلة أكافا
أي ثمن أكاف ، ومعنى التلبس موجود في جميع ذلك . وتسمية الشيء بما يؤول إليه كثير ، ومن ذلك : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) ، ومن ذلك الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يجر في بطنه نار جهنم ، وذكر في بطونهم تنبيها على شرهم وتقبيحا لتضييع أعظم النعم لأجل المطعوم الذي هو أحسن متناول ، قاله الراغب . وقال ابن عطية نحوه ، قال : وفي ذكر البطن تنبيه على مذهبهم ، بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له ، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم .
( ولا يكلمهم الله يوم القيامة ) : هذا الخبر الثاني عن أولئك ، وظاهره نفي الكلام مطلقا ، أعني مباشرتهم بالكلام ، فيكون ما جاء في القرآن ، أو في السنة ، مما ظاهره أنه تعالى يحاورهم بالكلام ، متأولا بأنه يأمر من يقول لهم ذلك ، نحو قوله تعالى : ( قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ) ، ويكون في نفي كلامه تعالى [ ص: 493 ] إياهم ، دلالة على الغضب عليهم ، ألا ترى أن من غضب على شخص صرمه وقطع كلامه ; لأن في التكلم - ولو كان بشر - تأنيسا ما والتفاتا إلى المكلم . وقيل : معنى " ولا يكلمهم الله " : أي يغضب عليهم . وليس المراد نفي الكلام ، إذ قد جاء في غير موضع ما ظاهره : أنه يكلم الكافرين ، قاله الحسن . وقيل : المعنى ليس على العموم ، إذ قد جاء في القرآن ما ظاهره أنه يكلمهم ، كقوله : ( فوربك لنسألنهم أجمعين ) ، والسؤال لا يكون إلا بالتكليم ، وقال : ( قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ) . فالمعنى : لا يكلمهم كلام خير وإقبال وتحية ، وإنما يكلمهم كلاما يشق عليهم . وقيل : المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية . وقيل : " ولا يكلمهم الله " تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه . وقيل : المعنى لا يحملهم على الكلام ; لأن من كلمته ، كنت قد استدعيت كلامه ، كأنه قال : لا يستدعى كلامهم فيكون نحو قوله : ( ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) ، فنفى الكلام ، وهو يراد ما يلزم عنه ، وهو استدعاء الكلام .
( ولا يزكيهم ) : هذا هو الخبر الثالث ، والمعنى : لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء ، أو لا ينزلهم منزلة الأزكياء . وقيل : المعنى لا يصلح أعمالهم الخبيثة . وقيل : المعنى لا يثني عليهم من قولهم : زكى فلانا ، إذا أثنى عليه ، قاله . وقيل : لا يطهرهم من دنس كفرهم ، وهو معنى قول بعضهم : لا يطهرهم من موجبات العذاب ، قاله الزجاج . وقيل : المعنى لا يسميهم أزكياء . ابن جرير
( ولهم عذاب أليم ) : هذا هو الخبر الرابع لأولئك ، وقد تقدم تفسير قوله : ( ولهم عذاب أليم ) ، في أول السورة . وترتب على الكتمان واشتراء الثمن القليل هذه الأخبار الأربعة ، وانعطفت بالواو الجامعة لها . وعطف الأخبار بالواو ، ولا خلاف في جوازه ، بخلاف أن لا تكون معطوفة ، فإن في ذلك خلافا وتفصيلا . وناسب ذكر هذه الأخبار ما قبلها ، ومناسب عطف بعضها على بعض ، لما نذكره فنقول : متى ذكر وصف ورتب عليه أمر ، فللعرب فيه طريقان : أحدهما : أن تكون تلك الأمور المترتبة على الأوصاف مقابلة لها ، الأول منها لأول تلك الأوصاف ، والثاني للثاني ، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ومن حيث الترتيب اللفظي ، حيث قوبل الأول بالأول ، والثاني بالثاني . وتارة يكون الأول من تلك الأمور مجاورا لما يليه من تلك الأوصاف ، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ، لا من حيث الترتيب اللفظي ، وهذه الآية جاءت من هذا القبيل .
لما ذكر تعالى اشتراءهم الثمن القليل ، وكان ذلك كناية عن مطاعمهم الخسيسة الفانية ، بدأ أولا في الخبر بقوله : ( ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) . ثم قابل تعالى كتمانهم الدين ، والكتمان هو أن لا يتكلموا به بل يخفوه بقوله تعالى : ( ولا يكلمهم الله ) ، فجوزوا على منع التكلم بالدين أن منعوا تكليم الله إياهم ، وابتنى على كتمانهم الدين ، واشترائهم بما أنزل الله ثمنا قليلا ، أنهم شهود زور وأخبار سوء ، حيث غيروا نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وادعوا أن النبي المبتعث هو غير هذا ، فقوبل ذلك كله بقوله : ( ولا يزكيهم ) . ثم ذكر أخيرا ما أعد لهم من العذاب الأليم ، فرتب على اشتراء الثمن القليل قوله : ( ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) ، وعلى الكتمان قوله : ( ولا يكلمهم الله ) ، وعلى مجموع الوصفين قوله : ( ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) . فبدأ أولا : بما يقابل فردا فردا ، وثانيا : بما يقابل المجموع . ولما كانت الجملة الأولى مشتملة على فعل مسند إلى الله ، كان الكلام الذي قابلها فيه فعل مسند إلى الله . ولما كانت الثانية مسندة إليهم ، ليس فيها إسناد إلى الله جاءت الجملة المقابلة لها مسندة إليهم ، ولم يأت ما يطعمهم الله في بطونهم إلا النار . ( وناسب ) ذكر هذه الآية ما قبلها ; لأنه تعالى ذكر في الآية قبلها إباحة الطيبات ، ثم فصل أشياء من المحرمات ، فناسب أن يذكر جزاء من كتم شيئا من دين الله ، ومما أنزله على أنبيائه ، فكان ذلك تحذيرا أن يقع المؤمنون فيما وقع فيه أهل الكتاب ، من كتم ما أنزل الله عليهم واشترائهم به ثمنا قليلا .
( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، [ ص: 494 ] " أولئك " : اسم إشارة إلى الكاتمين الذين سبق ذكرهم ، وذكر ما أوعدوا به ، وتقدم تفسير : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) مستوعبا في أول السورة ، فأغنى عن إعادته . ( والعذاب بالمغفرة ) : لما قدم حالهم في الدنيا ، بأنهم اعتاضوا من الهدى الضلالة ، ذكر نتيجة ذلك في الآخرة ، وهو أنهم اعتاضوا من المغفرة التي هي نتيجة الهدى وسبب النعيم الأطول السرمدي ، العذاب الأطول السرمدي ، الذي هو نتيجة الضلالة ; لأنهم لما كانوا عالمين بالحق ، وكتموه لغرض خسيس دنياوي . فإن كان ذلك اشتراء للعذاب بالمغفرة . وفي لفظ " اشتروا " إشعار بإيثارهم الضلالة والعذاب ; لأن الإنسان لا يشتري إلا ما كان له فيه رغبة ومودة واختيار وذلك يدل على نهاية الخسارة ، وعدم النظر في العواقب .
( فما أصبرهم على النار ) : اختلف في " ما " فالأظهر أنها تعجبية ، وهو قول الجمهور من المفسرين . وقد جاء : ( قتل الإنسان ما أكفره ) ، ( أسمع بهم وأبصر ) . وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا ، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر ؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر ؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف ؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف ؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو . الأول قول والجمهور ، والثاني قول سيبويه الفراء وابن درستويه ، والثالث والرابع للأخفش . وكذلك اختلفوا في أفعل بعد ما التعجبية ، أهو فعل ؟ وهو مذهب البصريين ، أم اسم ؟ وهو مذهب الكوفيين . وينبني عليه الخلاف في المنصوب بعده ، أهو مفعول به أو مشبه بالمفعول به ؟ وإذا قلنا : إن الكلام هو تعجب ، فالتعجب هو استعظام الشيء وخفاء حصول السبب ، وهذا مستحيل في حق الله تعالى ، فهو راجع لمن يصح ذلك منه ، أي هم ممن يقول فيهم من رآهم : ما أصبرهم على النار واختلف قائلو التعجب ، أهو صبر يحصل لهم حقيقة إذا كانوا في النار ؟ فذهب إلى ذلك الأصم وقال : إذا قيل لهم : ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) ، سكتوا وانقطع كلامهم ، وصبروا على النار ليأسهم من الخلاص . وضعف قول الأصم ، بأن ظاهر التعجب ، أنه من صبرهم في الحال ، لا أنهم سيصبرون ، وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع . وقيل : الصبر مجاز عن البقاء في النار ، أي ما أبقاهم في النار . أم هو صبر يوصفون به في الدنيا ؟ وهو قول الجمهور . واختلف : أهو حقيقة أم مجاز ؟ والقائلون بأنه حقيقة ، قالوا : معناه ما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النار ; لأنهم كانوا علماء بأن من عاند النبي - صلى الله عليه وسلم - صار إلى النار ، قاله المؤرج . وقيل : التقدير ما أصبرهم على عمل أهل النار ، كما تقول : ما أشبه سخاءك بحاتم ، أي بسخاء حاتم ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وهو قول الكسائي وقطرب ، وهو قريب من قول المؤرج . وقيل : " أصبر " هنا بمعنى أجرأ ، وهي لغة يمانية ، فيكون لفظ " أصبر " إذ ذاك مشتركا بين معناها المتبادر إلى الذهن من حبس النفس على الشيء المكروه ، ومعنى الجراءة ، أي ما أجرأهم على العمل الذي يقرب إلى النار ، قاله الحسن وقتادة والربيع . قال وابن جبير الفراء : أخبرني قال : أخبرني قاضي الكسائي اليمن أن خصمين اختصما إليه ، فوجبت اليمين على أحدهما ، فحلف له خصمه ، فقال له : ما أصبرك على الله أي ما أجرأك على الله والقائلون بأنه مجاز . فقيل : هو مجاز أريد به العمل ، أي ما أعملهم بأعمال أهل النار قاله مجاهد . وقيل : هو مجاز أريد به قلة الجزع ، أي ما أقل جزعهم من النار وقيل : هو مجاز أريد به الرضا ، وتقريره أن الراضي بالشيء يكون راضيا بمعلوله ولازمه ، إذا علم ذلك اللزوم . فلما أقدموا على ما يوجب النار وهم عالمون بذلك ، صاروا كالراضين بعذاب الله والصابرين عليه ، وهو كما يقول لمن تعرض لغضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن وقال : فما أصبرهم على النار تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة [ ص: 495 ] منهم . انتهى كلامه ، وانتهى القول في أن الكلام تعجب . وذهب الزمخشري معمر بن المثنى إلى أن ما استفهامية لا تعجبية ، وهو استفهام على معنى التوبيخ بهم ، أي : أي شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل ؟ وهو قول والمبرد ابن عباس والسدي . يقال : صبره وأصبره بمعنى : أي جعله يصبر ، لا أن أصبر هنا بمعنى : حبس واضطر ، فيكون أفعل بمعنى : فعل ، خلافا للمبرد ، إذ زعم أن أصبر بمعنى : صبر ، ولا نعرف ذلك في اللغة ، وإنما تكون الهمزة للنقل ، أي يجعل ذا صبر . وذهب قوم إلى أن ما نافية ، والمعنى : أن الله ما أصبرهم على النار ، أي ما يجعلهم يصبرون على العذاب ، فتلخص في معنى قوله : ( فما أصبرهم على النار ) التعجب والاستفهام والنفي ، وتلخص في التعجب ، أهو حقيقة أم مجاز ؟ وكلاهما : أذلك في الدنيا أو في الآخرة ؟ ( ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ) ، ذلك : إشارة إلى ما تقدم من الوعيد ، قاله ; أو إلى الحكم عليهم بأنهم من أهل الخلود في النار ، قاله الزجاج الحسن ، أو العذاب ، قاله ; أو الاشتراء ، قاله الزمخشري ابن عطية ، تفريعا على بعض التفاسير في الكتاب من قوله : " نزل الكتاب " ، وسيذكر أي ذلك الاشتراء بما سبق لهم في علم الله وورد أخباره به أو الكتمان . وأبعدها أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار الله أنه ختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم ، وأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون . واختلف في إعراب ذلك فقيل : هو منصوب بفعل محذوف تقديره : فعلنا ذلك ، وتكون الباء في بأن الله متعلقة بذلك الفعل المحذوف . وقيل : مرفوع ، واختلفوا ، أهو فاعل ، والتقدير : وجب ذلك لهم ؟ أم خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : الأمر ذلك ؟ أي : ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق . فاختلفوا ، أم مبتدأ ، والخبر قوله : " بأن الله نزل " ؟ أي : ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق ، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور ، وهو العذاب ، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق ، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه ، وأقام السبب مقام المسبب . والتفسير المعنوي : ذلك العذاب حاصل لهم بكتمان ما نزل الله من الكتاب المصحوب بالحق ، أو الكتاب الذي نزله بالحق . وقال الأخفش : الخبر محذوف تقديره : ذلك معلوم بأن الله ، فيتعلق الباء بهذا الخبر المقدر ، والكتاب التوراة والإنجيل ، أو القرآن ، أو كتب الله المنزلة على أنبيائه ، أو ما كتب عليهم من الشقاوة بقوله : " صم بكم عمي " ، فيكون الكتاب بمعنى الحكم والقضاء ، أقوال أربعة . " بالحق " قال : بالعدل . وقال ابن عباس مقاتل : ضد الباطل . وقال : بالواجب ، وحيثما ذكر بالحق فهو الواجب . مكي
( وإن الذين اختلفوا في الكتاب ) ، قيل : هم اليهود ، والكتاب : التوراة ، واختلافهم : كتمانهم بعث عيسى ، ثم بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - . آمنوا ببعض ، وهو ما أظهروه ، وكفروا ببعض ، وهو ما كتموه . وقيل : هم اليهود والنصارى ، قاله ; واختلاف كفرهم بما قصه الله تعالى من قصص عيسى وأمه - عليهما السلام - ، وبإنكار الإنجيل ، ووقع الاختلاف بينهم حتى تلاعنوا وتقاتلوا . وقيل : كفار العرب ، والكتاب : القرآن . قال بعضهم : هو سحر ، وبعضهم : هو أساطير الأولين ، وبعضهم : هو مفترى إلى غير ذلك . وقيل : السدي أهل الكتاب والمشركون . قال أهل الكتاب : إنه من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وليس هو من كلام الله . وقالوا : إنما يعلمه بشر ، وقالوا : دارست ، وقالوا : إن هذا إلا اختلاق ، إلى غير ذلك . وقال المشركون : بعضهم قال : سحر ، وبعضهم : شعر ، وبعضهم : كهانة ، وبعضهم : أساطير ، وبعضهم : افتراء إلى غير ذلك . والظاهر الإخبار عمن صدر منهم الاختلاف فيما أنزل الله من الكتاب بأنهم في معاداة وتنافر ; لأن الاختلاف مظنة التباغض والتباين ، كما أن الائتلاف مظنة التحاب والاجتماع . وفي المنتخب : الأقرب ، حمل الكتاب على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيهما ; لأن القوم قد عرفوا [ ص: 496 ] ذلك وكتموه ، وعرفوا تأويله . فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة به ، فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم ، دون القرآن . انتهى كلامه .
" لفي شقاق بعيد " : تقدم أن ذلك إما مأخوذ من كون هذا يصير في شق وهذا في شق ، أو من كون هذا يشق على صاحبه . وكنى بالشقاق عن العداوة ، ووصف الشقاق بالبعد ، إما لكونه بعيدا عن الحق ، أو لكونه بعيدا عن الألفة . أو كنى به عن الطول ، أي : في معاداة طويلة لا تنقطع . وهذا الاختلاف هو سبب اعتقاد كل طائفة أن كتابها هو الحق ، وأن غيره افتراء ، وقد كذبوا في ذلك . كتب الله يشبه بعضها بعضا ، ويصدق بعضها بعضا . ( وقد تضمنت ) هذه الآيات الكريمة نداء الناس ثانيا ، وأمرهم بالأكل من الحلال الطيب ، ونهيهم عن اتباع الشيطان ، وذكر خطواته ، كأنهم يقتفون آثاره ، ويطئون عقبه . فكلما خطا خطوة ، وضعوا أقدامهم عليها ، وذلك مبالغة في اتباعه . ثم بين أنه إنما نهاهم عن اتباعه ; لأنه هو العدو المظهر لعداوته . ثم لم يكتف بذكر العداوة حتى ذكر أنه يأمرهم بالمعاصي . ولما كان لهم متبوعا وهم تابعوه ، ناسب ذكر الأمر ، إذ هم ممتثلون ما زين لهم ووسوس . ثم ذكر ما به أمرهم ، وهو أمره إياهم بالافتراء على الله ، والإخبار عن الله بما لا يعلمونه عن الله ، ثم ذكر شدة إعراضهم عما أنزل الله ، واقتفاء اتباع آبائهم ، حتى أنهم لو كان آباؤهم مسلوبـي العقل والهداية لكانوا متبعيهم ، مبالغة في التقليد البحت والإعراض عن كتاب الله ، وجريا لخلفهم على سلف سننهم ، من غير نظر ولا استدلال .
ثم ذكر أن مثل الكفار وداعيهم إلى ما أنزل الله ، مثل الناعق بما لا يسمع إلا مجرد ألفاظ . ثم ذكر ما هم عليه من الصمم والبكم والعمى ، التي هي مانعة من وصول العلوم إلى الإنسان ، فلذلك ختم بقوله " فهم لا يعقلون " ; لأن طرق العقل والعلم مفسدة عليهم . ثم نادى المؤمنين نداء خاصا ، وأمرهم بالأكل من الطيب وبالشكر لله . ثم ذكر أشياء مما حرم ، وأباح الأكل منها حال الاضطرار ، وشرط في تناول ذلك أن لا يكون المضطر باغيا ولا عاديا . ولما أحل أكل الطيبات وحرم ما حرم هنا ، ذكر أحوال من كتم ما أنزل الله واشترى به النزر اليسير ، لتعتبر هذه الأمة بحال من كتم العلم وباعه بأخس ثمن ، إذ أخبر تعالى أنه لا يأكل في بطنه إلا النار ، أي ما يوجب أكله النار . وأن الله لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم حين يكلم المؤمنين تكليم رحمة وإحسان . وذكر أنهم مع انتفاء التعليم الذي هو أعلى الرتب للمرءوس من الرئيس ، حيث أهله لمناجاته ومحادثته ، وانتفاء الثناء عليهم لهم العذاب المؤلم . ثم بالغ في ذمهم بأن هؤلاء هم الذين آثروا الضلال على الهدى ، والعذاب على النعيم . ثم ذكر أنهم بصدد أن يتعجب من جلدهم على النار ، وأن ما حصل لهم من العذاب هو بسبب ما أنزل الله من الكتاب فخالفوه . ثم ذكر أن الذين اختلفوا فيما أنزل الله هم في معاداة لا تنقطع .