بسم الله الرحمن الرحيم
( والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون ) فرجت الشيء : فتحته فانفرج ، قال الراجز :
الفارجو باب الأمير المبهم
كفت : ضم وجمع ، ومنه قوله ، عليه الصلاة والسلام : ( ) . ومنه قيل اكفتوا صبيانكم لبقيع الغرقد : كفت وكفته ، والكفات اسم لما يكفت ، كالضمام والجماع ، يقال : هذا الباب جماع الأبواب ، وقال الصمصامة بن الطرماح :
فأنت اليوم فوق الأرض حي وأنت غدا تضمك في كفات
وقال أبو عبيدة : الكفات : الوعاء . شمخ : ارتفع . الشرر : ما تطاير من النار متبددا في كل جهة ، واحده شررة ، ولغة تميم : شرار بالألف واحده شرارة . القصر : الدار الكبيرة المشيدة ، والقصر : قطع من الخشب قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء ، واحده قصرة ، والقصر ، بفتح الصاد : [ ص: 403 ] أعناق الإبل والنخل والناس ، واحده قصرة ، وبكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة ، كحلقة من الحديد وحلق ، والله تعالى أعلم .
( والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين ) .
هذه السورة مكية ، وحكي عن ، ابن عباس وقتادة ، ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي : ( وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ) ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدا ، وهو أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين ، فهذا وعد منه صادق ، فأقسم على وقوعه في هذه ، فقال : ( إنما توعدون لواقع ) ولما كان المقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها وقع الخلاف في تعيين تلك الموصوفات ، فقال ، ابن مسعود ، وأبو هريرة وأبو صالح ، ومقاتل ، : ( والمرسلات ) : الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي ، فبالتعاقب على العباد طرفي النهار . وقال والفراء وجماعة : الأنبياء ، [ ص: 404 ] ومعنى عرفا : إفضالا من الله تعالى على عباده ، ومنه قول الشاعر : ابن عباس
لا يذهب العرف بين الله والناس
وانتصابه على أنه مفعول له ، أي أرسلن للإحسان والمعروف ، أو متتابعة تشبيها بعرف الفرس في تتابع شعره وأعراف الخيل ، وتقول العرب : الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه متتابعين ، وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه ، وانتصابه على الحال . وقال أيضا ، ابن مسعود أيضا ، وابن عباس ومجاهد وقتادة : الرياح . وقال الحسن : السحاب . وقرأ الجمهور : ( عرفا ) بسكون الراء ، وعيسى : بضمها .
( فالعاصفات ) قال : الشديدات الهبوب . وقيل : الملائكة تعصف بأرواح الكفار ، أي تزعجها بشدة ، أو تعصف في مضيها كما تعصف الرياح تحققا في امتثال أمره . وقيل : هي الآيات المهلكة ، كالزلازل والصواعق والخسوف ( والناشرات ) قال ابن مسعود ، السدي وأبو صالح ، ومقاتل : الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال . وقال الربيع : الملائكة تنشر الناس من قبورهم . وقال ، ابن مسعود والحسن ، و مجاهد ، و قتادة : الرياح تنشر رحمة الله ومطره . وقال أبو صالح : الأمطار تحيي الأرض بالنبات . وقال الضحاك : الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد ، فعلى هذا تكون الناشرات على معنى النسب ، أي : ذات النشر ( فالفارقات ) قال ابن عباس ، وابن مسعود وأبو صالح ، و مجاهد ، والضحاك : الملائكة تفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام . وقال قتادة والحسن ، وابن كيسان : آيات القرآن فرقت بين الحلال والحرام . وقال مجاهد أيضا : الرياح تفرق بين السحاب فتبدده . وقيل : الرسل ، حكاه . وقيل : السحاب الماطر تشبيها بالناقة الفاروق ، وهي الحامل التي تجزع حين تضع . وقيل : العقول تفرق بين الحق والباطل ، والصحيح والفاسد ( الزجاج فالملقيات ذكرا ) قال ، و ابن عباس قتادة والجمهور : الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقال قطرب : الرسل تلقي ما أنزل عليها إلى الأمم . وقال الربيع : آيات القرآن ألقيت على النبي صلى الله عليه وسلم ، واختار من الأقوال أن تكون ( الزمخشري والمرسلات ) إلى آخر الأوصاف : إما للملائكة ، وإما للرياح ، فللملائكة تكون عذرا للمحققين ، أو نذرا للمبطلين ، وللرياح يكون المعنى : فألقين ذكرا ، إما عذرا للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، وإما إنذارا للذين يغفلون عن الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن ، أو كفرت ، قاله ، والذي أراه أن المقسم به شيئان ، ولذلك جاء العطف بالواو في ( والناشرات ) والعطف بالواو يشعر بالتغاير ، بل هو موضوعه في لسان العرب ، وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات ، فيدل على أنها راجعة إلى العاديات ، وهي الخيل ، وكقوله : الزمخشري
يا لهف زيابة للحارث فالصا بح فالغانم فالآيب
فهذه راجعة لموصوف واحد وهو الحارث ، فإذا تقرر هذا ، فالظاهر أنه أقسم أولا بالرياح ، فهي مرسلاته تعالى ، ويدل عليه عطف الصفة بالفاء كما قلنا ، وأن العصف من صفات الريح في عدة مواضع من القرآن ، والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة ، ويكون ( فالفارقات ) ، ( فالملقيات ) من صفاتهم ، كما قلنا في عطف الصفات وإلقاؤهم الذكر وهو ما أنزل الله يصح إسناده إليهم ، وقرأ الجمهور : ( فالملقيات ) اسم فاعل خفيف ، أي نطرقه إليهم ، : مشدد من التلقية ، وهي أيضا إيصال الكلام إلى المخاطب ، يقال : لقيته الذكر فتلقاه ، وقرأ أيضا وابن عباس ، فيما ذكره ابن عباس المهدوي : بفتح اللام والقاف مشددة اسم مفعول ، أي تلقته من قبل الله تعالى .
وقرأ والنحويان [ ص: 405 ] إبراهيم التيمي وحفص : ( عذرا أو نذرا ) بسكون الذالين ، ، وزيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة ، وأبو جعفر ، وأبو حيوة ، وعيسى ، والحسن بخلاف ، والأعشى ، عن أبي بكر : بضمهما ، وأبو جعفر أيضا وشيبة ، والحرميان ، وزيد بن علي وابن عامر وأبو بكر : بسكونها في ( عذرا ) وضمها في ( نذرا ) ، فالسكون على أنهما مصدران مفردان ، أو مصدران جمعان ، ف ( عذرا ) جمع عذير بمعنى المعذرة ، و ( نذرا ) جمع نذير بمعنى الإنذار ، وانتصابهما على البدل من ( ذكرا ) كأنه قيل : فالملقيات عذرا أو نذرا ، أو على المفعول من أجله ، أو على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي عاذرين أو منذرين ، ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قررناه ، وقيل : يصح انتصاب ( عذرا أو نذرا ) على المفعول به بالمصدر الذي هو ( ذكرا ) أي فالملقيات ، أي فذكروا عذرا ، وفيه بعد لأن المصدر هنا لا يراد به العمل ، إنما يراد به الحقيقة لقوله : ( أألقي عليه الذكر ) والإعذار هو بقيام الحجة على الخلق ، والإنذار هو بالعذاب والنقمة ( إنما توعدون ) : أي من الجزاء بالثواب والعقاب ( لواقع ) : وما موصولة ، وإن كانت قد كتبت موصولة بإن وهذه الجملة هي المقسم عليها ، وقرأ الجمهور : ( أو نذرا ) بواو التفصيل ، : ( ونذرا ) بواو العطف . وإبراهيم التيمي