[ ص: 81 ] كان المؤمنون حريصين على ظهور الإسلام وعلو كلمته وتمني قتل العدو ، وكانوا يستأنسون بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ . والله تعالى قد جعل ذلك بابا ومضروبة لا يتعدى . فمدح تعالى المؤمنين بطلبهم إنزال سورة ، والمعنى تتضمن أمرنا بمجاهدة العدو ، وفضح أمر المنافقين . والظاهر أن ظاني ذلك هم خلص في إيمانهم ، ولذلك قال بعد ( رأيت الذين في قلوبهم مرض ) . وقال : كانوا يدعون الحرص على الجهاد ، ويتمنونه بألسنتهم ، ويقولون : ( الزمخشري لولا نزلت سورة ) في معنى الجهاد . ( فإذا أنزلت ) ، وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه ، كاعوا وشق عليهم وسقطوا في أيديهم ، كقوله : ( فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس ) . انتهى ، وفيه تخويف لما يدل عليه لفظ القرآن و ( لولا ) : بمعنى هلا ، وعن أبي مالك : لا زائدة ، والتقدير : لو نزلت ، وهذا ليس بشيء . وقرئ : فإذا نزلت . وقرأ : سورة محكمة ، بنصبهما ، ومرفوع نزلت يضم ، وسورة نصب على الحال . وقرأ هو زيد بن علي : وذكر مبنيا للفاعل ، أي الله . ( وابن عمر فيها القتال ) ونصب الجمهور : برفع ( سورة محكمة ) على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وبناء وذكر للمفعول ، والقتال رفع به ، وإحكامها كونها لا تنسخ . قال قتادة : كل سورة فيها القتال ، فهي محكمة من القرآن ، لا بخصوصية هذه الآية ، وذلك أن القتال نسخ ما كان من المهادنة والصلح ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة . وقيل : محكمة بالحلال والحرام . وقيل : محكمة أريدت مدلولات ألفاظها على الحقيقة دون المتشابه الذي أريد به المجاز ، نحو قوله : ( على العرش استوى ) ، ( في جنب الله ) ، ( فضرب الرقاب ) .
( رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك ) : أي تشخص أبصارهم جبنا وهلعا . ( نظر المغشي عليه ) : أي نظرا كما ينظر من أصابته الغشية من أجل حلول الموت . وقيل : يفعلون ذلك ، وهو شخوص البصر إلى الرسول من شدة العداوة . وقيل : من خشية الفضيحة ، فإنهم إن يخالفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم . وأولى لهم : تقدم شرحه في المفردات . وقال قتادة : كأنه قال : العقاب أولى لهم . وقيل : وهم المكروه ، وأولى وزنها أفعل أو أفلع على الاختلاف ، لأن الاستفعال الذي ذكرناه في المفردات . فعلى قول الجمهور : إنه اسم يكون مبتدأ ، والخبر لهم . وقيل : أولى مبتدأ ، ولهم من صلته ، وطاعة خبر ، وكأن اللام بمعنى الباء ، كأنه قيل : فأولى بهم طاعة . ولم يتعرض لإعرابه ، وإنما قال : ومعناه الدعاء عليهم بأن يليه المكروه . وعلى قول الزمخشري : أنه فعل يكون فاعله مضمرا يدل عليه المعنى . وأضمر لكثرة الاستعمال كأنه قال : قارب لهم هو ، أي الهلاك . قال الأصمعي ابن عطية : والمشهور من استعمال العرب أولى لك فقط على جهة الحذف والاختصار ، لما معها من القوة ، فيقول ، على جهة الزجر والتوعد : أولى لك يا فلان . وهذه الآية من هذا الباب . ومنه قوله : ( أولى لك فأولى ) . وقول الصديق للحسن رضي الله عنهما : أولى لك انتهى .
والأكثرون على أن : ( طاعة وقول معروف ) كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين ، إما الخبر وتقديره : أمثل ، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل ، وإما المبتدأ وتقديره : الأمر أو أمرنا طاعة ، أي الأمر المرضي لله طاعة . وقيل : هي حكاية قولهم ، أي قالوا طاعة ، ويشهد له قراءة أبي يقولون : ( طاعة وقول معروف ) ، وقولهم هذا على سبيل الهزء والخديعة . وقال قتادة : الواقف على : ( فأولى لهم طاعة ) ابتداء وخبر ، والمعنى : [ ص: 82 ] أن ذلك منهم على جهة الخديعة . وقيل : طاعة صفة لـ " سورة " ، أي فهي طاعة ، أي مطاعة . وهذا القول ليس بشيء لحيلولة الفصل لكثير بين الصفة والموصوف . ( فإذا عزم الأمر ) : أي جد ، والعزم : الجد ، وهو لأصحاب الأمر . واستعير للأمر ، كما قال تعالى : ( لمن عزم الأمور ) . وقال الشاعر :
قد جدت بهم الحرب فجدوا
والظاهر أن جواب إذا قوله : ( فلو صدقوا الله ) ، كما تقول : إذا كان الشتاء ، فلو جئتني لكسوتك . وقيل : الجواب محذوف تقديره : فإذا عزم الأمر هو أو نحوه ، قاله قتادة . ومن حمل ( طاعة وقول معروف ) ، على أنهم يقولون ذلك خديعة قدرناه عزم الأمر ، فاقفوا وتقاضوا ، وقدره أبو البقاء فأصدق ، ( فلو صدقوا الله ) فيما زعموا من حرصهم على الجهاد ، أو في إيمانهم ، وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم ، أو في قلوبهم ( طاعة وقول معروف ) . ( فهل عسيتم ) : التفات للذين في قلوبهم مرض ، أقبل بالخطاب عليهم على سبيل التوبيخ وتوقيفهم على سوء مرتكبهم ، وعسى تقدم الخلاف في لغتها . وفي القراءة فيها ، إذا اتصل بها ضمير الخطاب في سورة البقرة ، واتصال الضمير بها لغة الحجاز ، وبنو تميم لا يلحقون بها الضمير . وقال أبو عبد الله الرازي : وقد ذكروا أن عسى يتصل بها ضمير الرفع وضمير النصب ، وأنها لا يتصل بها ضمير قال : وأما قول من قال : عسى أنت تقوم ، وعسى أنا أقوم ، فدون ما ذكر تطويل الذي فيه . انتهى . ولا أعلم أحدا من نقلة العرب ذكر انفصال الضمير بعد عسى ، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط ، وهو إن توليتم .وقرأ الجمهور : ( إن توليتم ) ، ومعناه إن أعرضتم عن الإسلام . وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ؟ ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطعوا الأرحام ، وعصوا الرحمن ؟ يشير إلى ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول . وقال كعب ، ، ومحمد بن كعب وأبو العالية ، والكلبي : إن توليتم ، أي أمور الناس من الولاية ، ويشهد لها قراءة وليتم مبنيا للمفعول . وعلى هذا قيل : نزلت فيبني هاشم وبني أمية . وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن توليتم " ، بضم التاء والواو وكسر اللام ، وبها قرأ علي وأويس ، أي إن وليتكم ولاية جور دخلتم إلى دنياهم دون إمام العدل . وعلى معنى إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وإقفال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والثبات ، فإن كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم . وقيل معناه : إن تولاكم الناس : وكلكم الله إليهم ، والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال ، وهو الذي سبقت الآيات فيه ، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر الله في القتال .
و ( أن تفسدوا في الأرض ) بعدم معونة أهل الإسلام ، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم . ويدل على ذلك ( أولئك الذين لعنهم الله ) . فالآيات كلها في المنافقين . وهذا التوقع الذي في عسى ليس منسوبا إليه تعالى ، لأنه عالم بما كان وما يكون ، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين ، كأنه يقول لهم : لنا علم من حيث ضياعهم . هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا ؟ وقرأ الجمهور : ( تقطعوا ) ، بالتشديد على التكثير ، وأبو عمرو ، في رواية ، وسلام ، ويعقوب ، وأبان ، وعصمة : بالتخفيف ، مضارع قطع ، والحسن : وتقطعوا ، بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر ، أي أرحامكم ، لأن تقطع لازم . ( أولئك ) إشارة إلى المرضى القلوب ، ( فأصمهم ) عن سماع الموعظة ، ( وأعمى أبصارهم ) عن طريق الهدى . وقال : لعنهم الله لإفسادهم وقطعهم الأرحام ، فمنعهم ألطافه ، وخذلهم حتى عموا . انتهى . وهو على طريق الاعتزال . وجاء التركيب : فأصمهم ، ولم يأت فأصم آذانهم ، وجاء : وأعمى أبصارهم ، ولم يأت وأعماهم . قيل : لأن الأذن لو أصمت لا تسمع الإبصار ، فالعين لها مدخل في الرؤية ، والأذن لها مدخل في السمع . انتهى . ولهذا جاء : ( الزمخشري وعلى سمعهم ) ، ( وجعل لكم السمع ) ، ولم يأت : وعلى آذانهم ، ولا يأتي : وجعل لكم الآذان .
[ ص: 83 ] وحين ذكر الأذن ، نسبت إليه الوقر ، وهو دون الصمم ، كما قال : ( وفي آذاننا وقر ) .
( أفلا يتدبرون ) : أي يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة ، وهو استفهام توبيخي وتوقيفي على محاربهم . ( أم على قلوب أقفالها ) : استعارة للذين منهم الإيمان ، وأم منقطعة بمعنى بل ، والهمزة للتقرير ، ولا يستحيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يصل إليها ذكر ، ولم يحتج إلى تعريف القلوب ، لأنه معلوم أنها قلوب من ذكر . ولا حاجة إلى تقدير صفة محذوف ، أي أم على قلوب أقفالها قاسية . وأضاف الأقفال إليها ، أي الأقفال المختصة ، أو هي أقفال الكفر التي استغلقت ، فلا تفتح . وقرئ : إقفالها ، بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، وأقفلها بالجمع على أفعل . ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ) قال قتادة : نزلت في قوم من اليهود ، وكانوا عرفوا أمر الرسول من التوراة ، وتبين لهم بهذا الوجه ، فلما باشروا أمره حسدوه ، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى . وقال وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ، ثم ماتت قلوبهم . والآية تتناول كل من دخل في ضمن لفظها . ابن عباس
وتقدم الكلام على ( سول ) في سورة يوسف . وقال : سول لهم ركوب العظائم ، من السول ، وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا . انتهى . وقال الزمخشري أبو علي الفارسي : بمعنى ولا هم من السول ، وهو الاسترخاء والتدلي . وقال غيره : سولهم : رجاهم . وقال ابن بحر : أعطاهم سؤلهم . وقول ، وقد اشتقه إلى آخره ، ليس بجيد ، لأنه توهم أن السول أصله الهمزة . واختلفت المادتان ، أو عين سول واو ، وعين السؤل همزة ، والسول له مادتان : إحداهما الهمز ، من سأل يسأل ، والثانية الواو ، من سال يسال . فإذا كان هكذا ، فسول يجوز أن يكون من ذوات الهمز . وقال صاحب اللوامح : والتسويل أصله من الإرخاء ، ومنه : ( الزمخشري فدلاهما بغرور ) . والسول : استرخاء البطن . وقرأ : ( زيد بن علي سول لهم ) : أي كيده على تقدير حذف مضاف . وقرأ الجمهور : ( وأملى لهم ) مبنيا للفاعل ، والظاهر أنه يعود على الشيطان ، وقاله الحسن ، وجعل وعده الكاذب بالبقاء ، كالإبقاء . والإبقاء هو البقاء ملاوة من الدهر يمد لهم في الآمال والأماني . قيل : ويحتمل أن يكون فاعل أملى ضميرا يعود على الله ، وهو الأرجح ، لأن حقيقة الإملاء إنما هو من الله . وقرأ ، ابن سيرين والجحدري ، وشيبة ، وأبو عمرو ، وعيسى : وأملي مبنيا للمفعول ، أي أمهلوا ومدوا في عمرهم . وقرأ مجاهد ، وابن هرمز ، ، والأعمش وسلام ، ويعقوب : وأملي بهمزة المتكلم مضارع أملى ، أي وأنا أنظرهم ، كقوله : ( إنما نملي لهم ) ، ويجوز أن يكون ماضيا سكنت منه الياء ، كما تقول في يعي بسكون الياء .
( ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل ) . وروي أن قوما من قريظة والنضير كانوا يعينون المنافقين في أمر الرسول والخلاف عليه بنصره ومؤازرته ، وذلك قوله : ( سنطيعكم في بعض الأمر ) . وقيل : الضمير في قالوا للمنافقين ، والذين كرهوا ما نزل الله : هم قريظة والنضير ، وبعض الأمر : قول المنافقين لهم : ( لئن أخرجتم لنخرجن معكم ) ، قاله . وقيل : بعض الأمر : التكذيب بالرسول ، أو بلا إله إلا الله ، أو ترك القتال معه . وقيل : هو قول الفريقين ، ابن عباس اليهود والمنافقين للمشركين : سنطيعكم في التكافؤ على عداوة الرسول والقعود عن الجهاد معه ، وتعين في بعض الأمر في بعض ما يأسرون به ، أو في بعض الأمر الذي يهمكم . وقرأ الجمهور : أسرارهم . بفتح الهمزة ، وكانت أسرارهم كثيرة . وابن وثاب ، وطلحة ، ، والأعمش وحمزة ، ، والكسائي وحفص : بكسرها : وهو مصدر ، قالوا : ذلك سرا فيما بينهم ، وأفشاه الله عليهم . وقال أبو عبد الله الرازي : الأظهر أن يقال : والله يعلم أسرارهم ، ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد عليه السلام ، فإنهم كانوا معاندين مكابرين ، وكانوا يعرفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما يعرفون أبناءهم . انتهى .
( فكيف إذا توفتهم الملائكة ) : تقدم [ ص: 84 ] شرح : ( الذين في قلوبهم مرض ) ، ومبلغهم لأجل القتال . وتقدم قول المرتدين ، وما يلحقهم في ذلك من جزائهم على طواعية الكاذبين ما أنزل الله . وتقدم : ( والله يعلم إسرارهم ) ، فجاء هذا الاستفهام الذي معناه التوقيف عقب هذه الأشياء . فقال : فكيف علمه بها ، أي بإسرارهم إذا توفتهم الملائكة ؟ وقيل : فكيف يكون حالهم مع الله فيما ارتكبوه من ذلك القول ؟ وقرأ الطبري : توفاهم ، بألف بدل التاء ، فاحتمل أن يكون ماضيا ومضارعا حذفت منه التاء ، والظاهر أن وقت التوفي هو عند الموت . وقال الأعمش : لا يتوفى أحد على معصيته إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره . والملائكة : ابن عباس ملك الموت والمصرفون معه . وقيل : هو وقت القتال نصرة للرسول ، يضرب وجوههم أن يثبتوا ، وأدبارهم : انهزموا . والملائكة : النصر . والظاهر أن يضربون حال من الملائكة ، وقيل : حال من الضمير في توفاهم ، وهو ضعيف . ( ذلك ) : أي ذلك الضرب للوجوه والأدبار ، ( بأنهم اتبعوا ما أسخط الله ) : وهو الكفر ، أو كتمان بعث الرسول ، أو تسويل الشيطان ، أقوال . والمتبع الشيء هو مقبل بوجهه عليه ، فناسب ضرب الملائكة وجهه . ( وكرهوا رضوانه ) : وهو الإيمان بالله واتباع دينه . والكافر للشيء متول عنه ، فناسب ضرب الملائكة دبره ، ففي ذلك مقابلة أمرين بأمرين .