لما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل واختلافهم بعد ذلك ، ذكر حال نبيه عليه الصلاة والسلام وما من به عليه من اصطفائه فقال : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء ) . قال قتادة : الشريعة : الأمر ، والنهي ، والحدود ، والفرائض . وقال مقاتل : البينة ، لأنها طريق إلى الحق . وقال الكلبي : السنة ، لأنه كان يستن بطريقة من قبله من الأنبياء . وقال ابن زيد : الدين ، لأنه طريق إلى النجاة . والشريعة في كلام العرب : الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ، ومنه قول الشاعر :
وفي الشرائع من جيلان مقتنص رث الثياب خفي الشخص منسرب
فشريعة الدين من ذلك ، من حيث يرد الناس أمر الله ورحمته والقرب منه ، من الأمور التي من دين الله الذي بعثه في عباده في الزمان السالف ، أو يكون مصدر أمر ، أي من الأمر والنهي ، وسمي النهي أمرا . ( أهواء الذين لا يعلمون ) ، قيل : جهال قريظة والنضير . وقيل : رؤساء قريش ، حين قالوا : رجع إلى دين آبائك . ( هذا بصائر ) : أي هذا القرآن - جعل ما نافية - من معالم الدين ، بصائر للقلوب ، كما جعل روحا وحياة . وقرئ : هذي ، أي هذه الآيات . ( أم حسب ) : أم منقطعة تتقدر ببل والهمزة ، وهو استفهام [ ص: 47 ] إنكار . وقال الكلبي : نزلت في علي ، وحمزة ، ، وفي وعبيدة بن الحارث عتبة ، وشيبة ، . قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولئن كان ما تقولون حقا ، لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما هو أفضل في الدنيا . واجترحوا : اكتسبوا ، والسيئات : هنا سيئات الكفر ، ونجعلهم : نصيرهم ، والمفعول الثاني هو كالذين ، وبه تمام المعنى . وقرأ الجمهور : سواء بالرفع ، ومماتهم بالرفع أيضا ، وأعربوا ( سواء ) : مبتدأ ، وخبره ما بعده ، ولا مسوغ لجواز الابتداء به ، بل هو خبر مقدم ، وما بعده المبتدأ . والجملة خبر مستأنف ، واحتمل الضمير في ( والوليد بن عتبة محياهم ومماتهم ) أن يعود على ( الذين اجترحوا ) ، أخبر أن حالهم في الزمانين سواء ، وأن يعود على المجترحين والصالحين بمعنى : أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء في إهانتهم عند الله وعدم كرامتهم عليه ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى ، وذهن السامع يفرقه ، إذ قد تقدم إبعاد الله أن يجعل هؤلاء كهؤلاء . قال : يبعث الناس على ما ماتوا عليه . وقال أبو الدرداء مجاهد : المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا .وقال ابن عطية : مقتضى هذا الكلام أنه لفظ الآية ، ويظهر لي أن قوله : ( سواء محياهم ومماتهم ) داخل في المحسنة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن ، والأول أيضا أجود . انتهى . ولم يبين كيفية تشبث الجملة بما قبلها حتى يدخل في المحسنة . وقال : والجملة التي هي : سواء محياهم ومماتهم ، بدل من الكاف ، لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا ، فكانت في حكم المفرد . ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديدا ؟ كما تقول : ظننت زيدا أبوه منطلق . انتهى . وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري ، من إبدال الجملة من المفرد ، قد أجازه الزمخشري أبو الفتح ، واختاره ابن مالك ، وأورد على ذلك شواهد على زعمه ، ولا يتعين فيها البدل . وقال بعض أصحابنا ، وهو الإمام العالم ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن علي الإشبيلي ، ويعرف بابن العلج ، وكان ممن أقام باليمن وصنف بها ، قال في كتابه البسيط في النحو : ولا يصح أن يكون جملة معمولة للأول في موضع البدل ، كما كان في النعت ، لأنها تقدر تقدير المشتق تقدير الجامد ، فيكون بدلا ، فيجتمع فيه تجوز أن ، ولأن البدل يعمل فيه العامل الأول ، فيصح أن يكون فاعلا ، والجملة لا تكون في موضع الفاعل بغير سائغ ، لأنها لا تضمر ، فإن كانت غير معمولة ، فهل تكون جملة ؟ لا يبعد عندي جوازها ، كما يتبع في العطف الجملة للجملة ، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي . انتهى .
وتبين من كلام هذا الإمام ، أنه لا يجوز أن تكون الجملة بدلا من المفرد ، وأما تجويز أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم ، فيظهر لي أنه لا يجوز ؛ لأنها بمعنى التصيير . لا يجوز صيرت زيدا أبوه قائم ، ولا صيرت زيدا غلامه منطلق ، لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات ، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها . وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولا ثانيا ، ليس فيها انتقال مما ذكرنا ، فلا يجوز والذي يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها ، أن تكون الجملة في موضع الحال ، والتقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم ؟ ليسوا كذلك ، بل هم مفترقون ، أي افتراق في الحالتين ، وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال عليها الكاف ، التي هي في موضع المفعول الثاني . وقرأ الزمخشري ، زيد بن علي وحمزة ، ، والكسائي وحفص : سواء بالنصب ، وما بعده مرفوع على الفاعلية ، أجرى سواء مجرى مستويا ، كما قالوا : مررت برجل سواء هو والعدم . وجوز في انتصاب " سواء " وجهين : أحدهما : أن يكون منصوبا على الحال ، و " كالذين " المفعول الثاني ، والعكس . وقرأ : سواء . بالنصب ، محياهم ومماتهم . بالنصب أيضا ، وخرج على أن يكون " محياهم ومماتهم " ظرفي زمان ، والعامل إما " الأعمش أن نجعلهم " وإما " سواء " ، وانتصب على البدل من مفعول " نجعلهم " ، والمفعول الثاني " سواء " ، [ ص: 48 ] أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء . وقال : ومن قرأ " ومماتهم " بالنصب ، جعل محياهم ومماتهم ظرفين ، كمقدم الحاج وخفوق النجم ، أي : سواء في محياهم وفي مماتهم ، والمعنى : إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا ، وأن يستووا مماتا ، لافتراق أحوالهم . وتمثيله بقوله : وخفوق النجم . ليس بجيد ، لأن خفوق مصدر ليس على مفعل ، فهو في الحقيقة على حذف مضاف ، أي وقت خفوق النجم ، بخلاف محيا وممات ومقدم ، فإنها تستعمل بالوضع مصدرا واسم زمان واسم مكان ، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم زمان ، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه ، لأنها موضوعة للزمان وللمكان ، كما وضعت للمصدر ، فهي مشتركة بين هذه المدلولات الثلاثة ، بخلاف خفوق النجم ، فإنه وضع للمصدر فقط . الزمخشري
وقد خلط ابن عطية في نقل القرآن ، وله بعض عذر . فإنه لم يكن معربا ، فقال : وقرأ ، طلحة بن مصرف وعيسى بخلاف عنه : سواء . بالنصب ، محياهم ومماتهم . بالرفع ، وقرأ حمزة ، ، والكسائي وحفص ، : سواء . بالنصب ، " محياهم ومماتهم " بالنصب ، ووجه كلا من القراءتين على ما تقتضيه صنعة الإعراب ، وتبعه على هذا الوهم صاحب التحرير ، وهو معذور ، لأنه ناسخ من كتاب إلى كتاب ، والصواب ما استبناه من القراءات لمن ذكرنا . ويستنبط من هذه الآية تباين حال المؤمن العاصي من حال الطائع ، وإن كانت في الكفار ، وتسمى مبكاة العابدين . وعن والأعمش ، رضي الله عنه ، أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح : ( تميم الداري ساء ما يحكمون ) . وعن ، أنه كان يرددها ليلة أجمع ، وكذلك الربيع بن خثيم ، كان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت ؟ وقال الفضيل بن عياض ابن عطية : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر ، بدليل معادلته بالإيمان ، ويحتمل أن تكون المعادلة هي بالاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا بكى الخائفون .
( ساء ما يحكمون ) : هو كقوله : ( بئسما اشتروا ) ، وتقدم إعرابه في البقرة . وقال ابن عطية : هنا ما مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم . ( بالحق ) : بأن خلقها حق واجب لما فيه من فيض الخيرات ، وليدل عليه دلالة الصنعة على الصانع . ( ولتجزى ) : هي لام كي معطوفة على بالحق ، لأن كلا من التاء واللام يكونان للتعليل ، فكان الخلق معللا بالجزاء . وقال : أو على معلل محذوف تقديره : ليدل بها على قدرته ، ( الزمخشري ولتجزى كل نفس ) . وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون ، لأن يجازى كل واحد بعمله ، وبما اكتسب من خير أو شر . انتهى . ( أفرأيت ) الآية ، قال مقاتل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي ، وأفرأيت : هو بمعنى أخبرني ، والمفعول الأول هو : ( من اتخذ ) ، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن اهتدى ، يدل عليه قوله بعد : ( فمن يهديه من بعد الله ) ، أي لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه . ( من اتخذ إلهه هواه ) : أي هو مطواع لهوى نفسه ، يتبع ما تدعوه إليه ، فكأنه يعبده ، كما يعبد الرجل إلهه . قال ابن جبير : إشارة إلى الأصنام ، إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة . وقال قتادة : لا يهوى شيئا إلا ركبه ، لا يخاف الله ، فلهذا يقال : الهوى إله معبود . وقرأ ، الأعرج وأبو جعفر : إلهة ، بتاء التأنيث ، بدل من هاء الضمير . وعن أنه قرأ : آلهة على الجمع . قال الأعرج ابن خالويه : ومعناه أن أحدهم كان يهوى الحجر فيعبده ، ثم يرى غيره فيهواه ، فيلقي الأول ، فكذلك قوله : ( إلهه هواه ) الآية . وإن نزلت في هوى الكفر ، فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة . قال : ما ذكر الله هوى إلا ذمه . وقال ابن عباس وهب : إذا شككت في خير أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته . وقال سهل التستري : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك . وفي الحديث : " " . ومن حكمة الشعر قول والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني عنترة ، وهو جاهلي :
[ ص: 49 ]
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها
فخالف هواها واعصها إن من يطع هوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوج ترده وترم به في مصرع أي مصرع ( وأضله الله على علم ) : أي من الله تعالى سابق ، أو على علم من هذا الضال بأن الحق هو الدين ، ويعرض عنه عنادا ، فيكون كقوله : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) . وقال : صرفه عن الهداية واللطف ، وخذله عن علم ، عالما بأن ذلك لا يجدي عليه ، وأنه ممن لا لطف به ، أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقرأ الجمهور : ( غشاوة ) : بكسر الغين . الزمخشري وعبد الله ، : بفتحها ، وهي لغة والأعمش ربيعة . والحسن ، وعكرمة ، وعبد الله أيضا : بضمها ، وهي لغة عكلية . ، والأعمش وطلحة ، وأبو حنيفة ، ومسعود بن صالح ، وحمزة ، : غشوة ، بفتح الغين وسكون الشين . وابن مصرف ، والكسائي أيضا : كذلك ، إلا أنهما كسرا الغين ، وتقدم تفسير الجملتين في أول البقرة . وقرأ الجمهور : ( تذكرون ) ، بشد الذال . والأعمش والجحدري يخففها ، : بتاءين . والأعمش
( وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا ) : هي مقالة بعض قريش إنكارا للبعث . والظاهر أن قولهم : ( نموت ونحيا ) حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير ، أي تموت طائفة وتحيا طائفة . وأن المراد بالموت مفارقة الروح للجسد . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي نحيا ونموت . وقيل : نموت عبارة عن كونهم لم يوجدوا ، ونحيا : أي في وقت وجودنا ، وهذا قريب من الأول قبله ، ولا ذكر للموت الذي هو مفارقة الروح في هذين القولين . وقيل : تموت الآباء وتحيا الأبناء . وقرأ : ونحيا ، بضم النون . ( زيد بن علي وما يهلكنا إلا الدهر ) : أي طول الزمان ، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها هذا إن كان قائلو هذا معترفين بالله ، فنسبوا الآفات إلى الدهر بجهلهم أنها مقدرة من عند الله ، وإن كانوا لا يعرفون الله ولا يقرون به ، وهم الدهرية ، فنسبوا ذلك إلى الدهر . وقرأ عبد الله : إلا دهر ، وتأويله : إلا دهر يمر . كانوا يضيفون كل حادثة إلى الدهر ، وأشعارهم ناطقة بشكوى الدهر ، حتى يوجد ذلك في أشعار المسلمين . قال في مقصورته : ابن دريد
يا دهر إن لم تك عتبى فاتئد فإن إروادك والعتبى سوا
تحية بينهم ضرب وجيع
أي : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة ، والمراد نفي أن يكون لهم حجة ألبتة . وقرأ الجمهور : حجتهم . بالنصب ، والحسن ، ، وعمرو بن عبيد ، وزيد بن علي ، وعبيد بن عمير وابن عامر ، فيما روى عنه عبد الحميد ، وعاصم ، فيما روى هارون وحسين ، عن أبي بكر عنه : ( حجتهم ) ، أي ما تكون حجتهم ، لأن إذا للاستقبال ، وخالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفيا بما ، لم تدخل الفاء ، بخلاف أدوات الشرط ، فلا بد من الفاء . تقول : إن تزرنا فما جفوتنا ، أي فما تجفونا . وفي كون الجواب منفيا بما ، دليل على ما اخترناه من أن جواب إذا لا يعمل فيها ، لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها .
( ائتوا ) : يظهر أنه خطاب للرسول والمؤمنين ، إذ هم قائلون بمقالته ، أو هو خطاب له ولمن جاء بالبعث ، وهم الأنبياء ، وغلب الخطاب على الغيبة . وقال ابن عطية : ائتوا ، من حيث المخاطبة له . والمراد : هو وإلهه والملك الوسيط الذي ذكره هو لهم ، فجاء من ذلك جملة قيل لها ائتوا وإن كنتم . انتهى . ولما اعترفوا بأنهم ما يهلكهم إلا الدهر ، وأنهم استدلوا [ ص: 50 ] على إنكار البعث بما لا دليل لهم فيه من سؤال إحياء آبائهم ، رد الله تعالى عليهم بأنه تعالى هو المحيي ، وهو المميت لا الدهر ، وضم إلى ذلك آية جامعة للحساب يوم البعث ، وهذا واجب الاعتراف به إن أنصفوا ، ومن قدر على هذا قدر على الإتيان بآبائهم .