تراه كالثغام يعل مسكا يسوء الفاليات إذا فليني
[ ص: 413 ] يريد : فلينني . والخطاب بقوله : قل للرسول ، أو للسامع ، والهمزة للاستفهام مصحوبا بالإنكار عليهم ، والواو ضمير اليهود والنصارى . وقيل : مشركو العرب ، إذ قالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم . وقيل : ضمير اليهود والنصارى والمشركين . والمحاجة هنا : المجادلة . والمعنى : أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم ، وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا ، وترونكم أحق بالنبوة منا ؟ ( وهو ربنا وربكم ) : جملة حالية ، يعني أنه مالكهم كلهم ، فهم مشتركون في العبودية ، فله أن يخص من شاء بما شاء من الكرامة . والمعنى : أنه مع اعترافنا كلنا أنا مربوبون لرب واحد ، فلا يناسب الجدال فيما شاء من أفعاله ، وما خص به بعض مربوباته من الشرف والزلفى ; لأنه متصرف في كلهم تصرف المالك . وقيل المعنى : أتجادلوننا في دين الله ، وتقولون إن دينكم أفضل الأديان ، وكتابكم أفضل الكتب ؟ والظاهر إنكار المجادلة في الله ، حيث زعمت النصارى أن الله هو المسيح ، وحيث زعم بعضهم أن الله ثالث ثلاثة ، وحيث اليهود أن الله له ولد ، وزعموا أنه شيخ أبيض الرأس واللحية ، إلى ما يدعونه فيه من سمات الحدوث والنقص ، تعالى الله عن ذلك ، فأنكر عليهم كيف يدعون ذلك ، والرب واحد لهم ، فوجب أن يكون الاعتقاد فيه واحدا ، وهو أن تثبت صفاته العلا ، وينزه عن الحدوث والنقص . زعمت
( ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) ، المعنى : ولنا جزاء أعمالنا ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . والمعنى : أن الرب واحد ، وهو المجازي على الأعمال ، فلا تنبغي المجادلة فيه ولا المنازعة . ( ونحن له مخلصون ) : ولما بين القدر المشترك من الربوبية والجزاء ، ذكر ما يميز به المؤمنون من الإخلاص لله تعالى في العمل والاعتقاد ، وعدم الإشراك الذي هو موجود في النصارى وفي اليهود ; لأن من عبد موصوفا بصفات الحدوث والنقص ، فقد أشرك مع الله إلها آخر . والمعنى : أنا لم نشب عقائدنا وأفعالنا بشيء من الشرك ، كما ادعت اليهود في العجل والنصارى في عيسى . وهذه الجملة من باب التعريض بالذم ; لأن ذكر المختص بعد ذكر المشترك نفي لذلك المختص عمن شارك في المشترك ، ويناسب أن يكون استطرادا ، وهو أن يذكر معنى يقتضي أن يكون مدحا لفاعله وذما لتاركه ، نحو قوله :
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول
وهي منبهة على أن من أخلص لله ، كان حقيقا أن يكون منهم الأنبياء وأهل الكرامة ، وقد كثرت أقوال أرباب المعاني في الإخلاص . فروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " سألت جبريل عن ؟ فقال : سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو ؟ فقال : سر من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي الإخلاص ما هو " . وقال : الإخلاص : أن لا يشرك في دينه ، ولا يرائي في عمله أحدا . وقال سعيد بن جبير الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما . وقال ابن معاذ : تمييز العمل من الذنوب ، كتمييز اللبن من بين الفرث والدم . وقال البوشنجي : هو معنى لا يكتبه الملكان ، ولا يفسده الشيطان ، ولا يطلع عليه الإنسان ، أي لا يطلع عليه إلا الله . وقال رويم : هو ارتفاع عملك عن الرؤية . وقال حذيفة المرعشي : أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن . وقال أبو يعقوب المكفوف : أن يكتم العبد حسناته ، كما يكتم سيئاته . وقال سهل : هو الإفلاس ، ومعناه أن يرجع إلى احتقار العمل . وقال : للمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده ، وينشط إذا كان في الناس ، ويزيد في العمل إذا أثني عليه . وهذا القول الذي أمر به - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله على وجه الشفقة والنصيحة في الدين ، لينبهوا على أن تلك المجادلة منكم ليست واقعة موقع الصحة ، ولا هي مما ينبغي أن تكون . وليس مقصودنا بهذا التنبيه دفع ضرر منكم ، [ ص: 414 ] وإنما مقصودنا نصحكم وإرشادكم إلى تخليص اعتقادكم من الشرك ، وأن تخلصوا كما أخلصنا ، فنكون سواء في ذلك . أبو سليمان الداراني