وإذا رميت به الفجاج رأيته تهوي مخارمها هوى الأجدل
شخص البصر أحد النظر ، ولم يستقر في مكانه . المهطع : المسرع في مشيه . قال الشاعر :بمهطع سرح كأن عنانه في رأس جذع من أراك مشذب
إذا دعانا فأهطعنا لدعوته داع سميع فلبونا وساقونا
يباكرن العصاة بمقنعات نواجذهن كالحدأ الوقيع
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
كأن الرجل منها فوق صعل من الظلمات جؤجؤه هواء
وأبقـى بــالملــوك مصفــدينــا
وأصفدته : أعطيته . وقيل : صفد وأصفد معا في القيد والإعطاء . قال الشاعر :
فلـم أعرض ، أبيت اللعـن ، بالصفـد
أي : بالعطاء . وسمي العطاء صفدا لأنه يقيد ويعبد . السربال : القميص ، يقال : سربلته فتسربل . القطران : ما يحلب من شجر الأبهل فيطبخ ، وتهنأ به الإبل الجربى ، فيحرق الجرب بحره وحدته ، وهو أقبل الأشياء اشتعالا ، ويقال فيه قطران بوزن سكران ، وقطران بوزن سرحان .
( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر التعجيب من الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وجعلوا لله أندادا وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين اتخذوا آلهة من دون الله ، وكان من نعم الله عليهم إسكانه إياهم حرمه ، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم ، وأنه - صلوات الله عليه - دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة ، ودعا بأن يجنب بنيه عبادة الأصنام ، وأنه أسكنه وذريته في بيته ليعبدوه وحده بالعبادة التي هي أشرف العبادة وهي الصلاة ، لينظروا في دين أبيهم ، وأنه مخالف لما ارتكبوه من عبادة الأصنام ، فيزدجروا ويرجعوا عنها . وتقدم الكلام على قوله هنا هذا البلد معرفا ، وفي البقرة منكرا .
وقال : هنا سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني أن يخرج من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف ، فاجعله آمنا ; انتهى . ودعا الزمخشري إبراهيم أولا بما هو على طاعة الله تعالى ، وهو كون محل العابد آمنا لا يخاف فيه ، إذ يتمكن من عبادة الله تعالى ، ثم دعا ثانيا بأن يجنب هو وبنوه من عبادة الأصنام . ومعنى واجنبني وبني : أدمني وإياهم على اجتناب عبادة الأصنام . وأراد بقوله : وبني : أولاده ، من صلبه الأقرباء . وأجابه الله تعالى فجعل الحرم آمنا ، ولم يعبد أحد من بنيه الأقرباء لصلبه صنما . قال : وقد سئل ، كيف عبدت العرب الأصنام ؟ قال : ما عبد أحد من ولد سفيان بن عيينة إسماعيل صنما وكانوا ثمانية ، إنما كانت لهم حجارة ينصبونها ويقولون : حجر ، فحيث ما نصبوا حجرا فهو بمعنى البيت ، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار ; انتهى .
قال ابن عطية : وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ، ومن حصل في رتبته فكيف يخاف أن يعبد صنما ؟ لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف وطلب الخاتمة . وكرر النداء استعطافا لربه تعالى ، وذكر سبب طلبه : أن يجنب هو وبنوه عبادة الأصنام بقوله : إنهن أضللن كثيرا من الناس ، إذ قد شاهد أباه [ ص: 431 ] وقومه يعبدون الأصنام . ومعنى أضللنا : كنا سببا لإضلال كثير من الناس ، والمعنى : أنهم ضلوا بعبادتها ، كما تقول : فتنتهم الدنيا ، أي : افتتنوا بها ، واغتروا بسببها . وقرأ الجحدري ، : وأجنبني من أجنب ، وأنث الأصنام لأنه جمع ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث كما تقول : الأجذاع انكسرت . والإخبار عنه إخبار جمع العاقل المذكر بالواو ومجاز نحو قوله : فقد ضلوا كثيرا . فمن تبعني ، أي : على ديني وما أنا عليه ، فإنه مني . جعله لفرط الاختصاص به وملابسته كقوله : " وعيسى الثقفي " أي ليس بعض المؤمنين تنبيها على تعظيم الغش بحيث هو يسلب الغاش الإيمان ، والمعنى : أن الغش ليس من أوصاف أهل الإيمان . ومن عصاني ، هذا فيه طباق معنوي ، لأن التبعية طاعة فقوله : من غشنا فليس منا فإنك غفور رحيم . قال مقاتل : ومن عصاني فيحادون الشرك . وقال : تغفر لي ما سلف من العصيان إذا بدا لي فيه واستحدث الطاعة . قال الزمخشري ابن عطية : ومن عصاني ظاهره بالكفر لمعادلة قوله : فمن تبعني فإنه مني ، وإذا كان كذلك فقوله : فإنك غفور رحيم ، معناه حين يؤمنوا ، لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر ، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب - صلى الله عليه وسلم - . وكذلك قال نبي الله عيسى عليه السلام : ( وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) .
( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) : كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهارا للتذلل ، والالتجاء إلى الله تعالى . وأتى بضمير جماعة المتكلمين ، لأنه تقدم ذكره . وذكر بنيه في قوله : واجنبني وبني ، ومن ذريتي هو إسماعيل ، ومن ولد منه . وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة ، فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل ، فجاء في يوم واحد من الشام إلى مكة ، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك ، وركب منصرفا من يومه ذلك ، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى ، فلما ولي دعا بما في ضمن هذه الآية . وأما كيفية بقاء هاجر وما جرى لها ولإسماعيل هناك ففي كتاب والسير وغيره . و ( من ) للتبعيض ، لأن البخاري إسحاق كان في الشام ، والوادي ما بين الجبلين ، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء ، وإنما قال : غير ذي زرع ، لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي ، وأنه يرزقها الماء ، وإنما نظر النظر البعيد ، فقال : غير ذي زرع ، ولو لم يعلم ذلك من الله تعالى لقال : غير ذي ماء ، على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك . قال ابن عطية : وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث وجد الماء ، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء . وقال : بواد هو [ ص: 432 ] وادي الزمخشري مكة ، غير ذي زرع : لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله : ( قرآنا عربيا غير ذي عوج ) بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ، ما فيه إلا استقامة لا غير ; انتهى . واستعمل ( قط ) وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولا لقوله : ( لا يكون ) ، وليس هو ماضيا ، وهو مكان ( أبدا ) الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات . والظاهر أن قوله : عند بيتك المحرم ، يقتضي وجود البيت حالة الدعاء ، وسبقه قبله وتقدم الكلام في البيت ، ومتى وضع في البقرة ، وفي آل عمران . ووصف بالمحرم لكونه حرم على الطوفان ، أي : منع منه ، كما سمي بعتيق لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو لكونه لم يزل عزيزا ممنعا من الجبابرة ، أو لكونه محترما لا يحل انتهاكه . و ( ليقيموا ) متعلق بـ أسكنت . و ربنا دعاء معترض ، والمعنى : إنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة . وقيل : هي لام الأمر ، دعا لهم بإقامة الصلاة . وقال : اللام متعلقة بقوله : ( أبو الفرج بن الجوزي واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ليقيموا الصلاة ) ; انتهى . وهذا بعيد جدا . وخص الصلاة دون سائر العبادات لأنها أفضلها ، أو لأنها سبب لكل خير . وقوله : ( ليقيموا ) بضمير الجمع دلالة على أن الله أعلمه بأن هذا الطفل سيعقب هنالك ، ويكون له نسل . وأفئدة : جمع فؤاد ، وهي القلوب ، سمي القلب فؤادا لإتفاده مأخوذ من فأد ، ومنه المفتأد ، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم . وقال مؤرج الأفئدة : القطع من الناس بلغة قريش ، وإليه ذهب ابن بحر . قال مجاهد : لو قال إبراهيم عليه السلام : أفئدة الناس ، لازدحمت على البيت فارس والروم . وقال ابن جبير : لحجته اليهود والنصارى . والظاهر أن ( من ) للتبعيض ، إذ التقدير : أفئدة من الناس . قال : ويجوز أن تكون من للابتداء ، كقولك : القلب مني سقيم ، يريد قلبي ، فكأنه قيل : أفئدة ناس ، وإنما نكر المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة ، لأنها في الآية نكرة لتتناول بعض الأفئدة ; انتهى . ولا يظهر كونها لابتداء الغاية ، لأنها ليس لنا فعل يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها ، إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة من الناس ، وإنما الظاهر في ( من ) التبعيض . وقرأ الزمخشري هشام : أفئيدة ، بياء بعد الهمزة ، نص عليه الحلواني ، عنه ، وخرج ذلك على الإشباع ، ولما كان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر حمل بعض العلماء هذه القراءة على أن هشاما قرأ بتسهيل الهمزة كالياء ، فعبر الراوي عنها بالياء ، فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة ، والمراد بياء عوضا من الهمزة ، قال : فيكون هذا التحريف من جنس التحريف المنسوب إلى من روى عن أبي عمرو : بارئكم ويأمركم ، ونحوه بإسكان حركة الإعراب ، وإنما كان ذلك اختلاسا . قال أبو عمرو والداني الحافظ : ما ذكره صاحب هذا القول لا يعتمد عليه ، لأن النقلة عن هشام وأبي عمر ، وكانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها ، وليس يفضي بهم الجهل إلى أن يعتقد فيهم مثل هذا ، وقرئ آفدة : على وزن فاعلة ، فاحتمل أن يكون اسم فاعل للحذف من أفد ، أي : دنا وقرب وعجل ، أي : جماعة آفدة ، أو جماعات آفدة ، وأن يكون جمع ذلك فؤاد ، ويكون من باب القلب ، وصار بالقلب أأفدة ، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفا كما قالوا في آرآم : أأرام ، فوزنه أعفلة . وقرئ أفدة على وزن فعلة ، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد ، وذلك بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها وهو الفاء ، وإن كان تسهيلها بين بين هو الوجه ، وأن يكون اسم فاعل من أفد ، كما تقول : فرح فهو فرح . وقرأت أم الهيثم : أفودة ، بالواو المكسورة ، بدل الهمزة . قال صاحب اللوامح : وهو جمع وفد ، والقراءة حسنة : لكني لا أعرف هذه المرأة ، بل ذكرها أبو حاتم ; انتهى . أبدل الهمزة في فؤاد بعد الضمة كما أبدلت في جون ، ثم جمع فأقرها في الجمع إقرارها في المفرد . وهو جمع وفد ، كما قال صاحب اللوامح ، وقلب إذ الأصل أوفده . وجمع فعل على أفعلة شاذ نحو : نجد وأنجدة ، ووهي وأوهية . وأم الهيثم [ ص: 433 ] امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب . وقرأ : إفادة على وزن إشارة . ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة ، كما قالوا : إشاح في وشاح ، فالوزن فعالة ; أي : فاجعل ذوي وفادة . ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة ، أو ذوي إفادة ، وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم . وقرأ الجمهور : ( زيد بن علي تهوي إليهم ) أي تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا ونزاعا ، ولما ضمن تهوي معنى تميل عداه بإلى ، وأصله أن يتعدى باللام . قال الشاعر :
حتى إذا ما هوت كف الوليد بها طارت وفي كفه من ريشها تبك
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما مؤمن الجن ككفارها
( ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) : كرر النداء للتضرع والالتجاء ، ولا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم ، وبين إضافته إلى جمع المتكلم ، وما نخفي وما نعلن : عام فيما يخفونه وما يعلنونه . وقيل : ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة ، وما نعلن من البكاء والدعاء . وقيل : ما نخفي من كآبة الافتراق ، وما نعلن مما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله أكلكم . قالت : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : لا نخشى ، تركتنا إلى كاف . والظاهر أن قوله : وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ، من كلام إبراهيم لاكتناف ما قبله وما بعده بكلام إبراهيم . لما ذكر أنه تعالى عمم ( ما يخفى ) هو ومن كنى عنه ، تمم جميع الأشياء ، وأنها غير خافية عنه تعالى . وقيل : ( وما يخفى ) الآية من كلام الله - عز وجل - تصديقا لإبراهيم - عليه السلام - كقوله تعالى : ( وكذلك يفعلون ) والظاهر أن [ ص: 434 ] هذه الجمل التي تكلم بها إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لم تقع منه في زمان واحد ، وإنما حكى الله عنه ما وقع في أزمان مختلفة ، يدل على ذلك أن إسحاق لم يكن موجودا حالة دعائه ، إذ ترك هاجر والطفيل بمكة . فالظاهر أن حمده الله تعالى على هبة ولديه له كان بعد وجود إسحاق ، وعلى الكبر : يدل على مطلق الكبر ، ولم يتعرض لتعيين المدة التي وهب له فيها ولداه . وروي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة . وقيل : إسماعيل لأربع وستين ، وإسحاق لتسعين . وعن ابن جبير : لم يولد له إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة . وإنما ذكر حال الكبر لأن المنة فيها بهبة الولد أعظم من حيث إن الكبر مظنة اليأس من الولد ، فإن مجيء الشيء بعد الإياس أحلى في النفس وأبهج لها . وعلى الكبر : في موضع الحال لأنه قال : وأنا كبير ، و ( على ) على بابها من الاستعلاء لكنه مجاز ، إذ الكبر معنى لا جرم يتكون ، وكأنه لما أسن وكبر صار مستعليا على الكبر . وقال : ( على ) في قوله ( الزمخشري على الكبر ) بمعنى مع ، كقوله :
إني على ما ترين من كبري أعلم من حيث يؤكل الكتف
فليت زيادا كان في بطن أمه وليت زيادا كان ولد حمار