قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : إن الكفار قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا ، واجعل لنا أرضا قطعا غراسا ، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا ، وفلانا وفلانا ، فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله . ولما ذكر تعالى علة إرساله ، وهي تلاوة ما أوحاه إليه ، ذكر تعظيم هذا الموحى وأنه لو كان قرآنا تسير به الجبال عن مقارها ، أو تقطع به الأرض حتى تتزايل قطعا قطعا ، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف . كما قال : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ) الآية ، فجواب " لو " محذوف وهو ما قدرناه ، وحذف جواب " لو " لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى : ( ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب ) ، ( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) وقال الشاعر :
وجدك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا
وقيل : تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا ) قال وقال الزجاج الفراء : هو متعلق بما قبله ، والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن ، ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) وما بينهما اعتراض ، وعلى قول الفراء : يترتب جواب " لو " أن يكون " لما آمنوا " ؛ لأن قولهم " وهم يكفرون بالرحمن " ليس جوابا ، وإنما هو دليل على الجواب . وقيل : معنى ( قطعت به الأرض ) شققت فجعلت أنهارا وعيونا . ويترتب على أن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا قوله : ( بل لله الأمر جميعا ) أي : الإيمان والكفر ، إنما يخلقهما الله تعالى ويريدهما . وأما على تقدير لكان هذا القرآن فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر : لكان هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهم وما تضمنه من التكاليف ، ثم قال : ( بل لله الأمر جميعا ) أي : الإيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء . وقال : ( الزمخشري بل لله الأمر جميعا ) على معنيين : أحدهما : بل لله القدرة على كل شيء ، وهو قادر على [ ص: 392 ] الآيات التي اقترحوها ، إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة . والثاني : بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء . لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار ، ويعضده قوله تعالى : ( أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله ) مشيئة الإلجاء والقسر لهدى الناس جميعا ، انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . واليأس : القنوط في الشيء ، وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم ، كأنه قيل : ألم يعلم الذين آمنوا . قال : هي لغة هوازن ، وقال القاسم بن معن : هي لغة حي من النخع وأنشدوا على ذلك ابن الكلبي لسحيم بن وثيل الرياحي وقال : ابن الكلبيأقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا غضفا دواجن قافلا أعصامها
وقال : ويجوز أن يتعلق ( الزمخشري أن لو يشاء الله ) بـ ( آمنوا ) على أولم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ، انتهى . وهذا قول أبي العباس ، ويحتمل عندي وجه آخر غير ما ذكروه ، وهو أن الكلام تام عند قوله : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) إذ هو تقرير ؛ أي : قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين ، و ( أن لو يشاء ) جواب قسم محذوف ؛ أي : وأقسموا لو شاء الله لهدى الناس جميعا ، ويدل على إضمار هذا القسم وجود ( أن ) مع ( لو ) كقول الشاعر :
أما والله أن لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا القمين
[ ص: 393 ]
فأقسم أن لو التقينا وأنتم لكان لنا يوم من الشر مظلم
والكفار عام في جميع الكفار ، وهذا الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة قاله الحسن ، وابن السائب ، أو هو ظاهر اللفظ . وقال ابن عطية : كفار قريش ، والعرب لا تزال تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغزواته .
وقال مقاتل : كفار والزمخشري مكة . قال : تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، أو تحل القارعة قريبا منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شررها ، وتتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم أو القيامة ، انتهى . الزمخشري
وقال الحسن : حال الكفرة هكذا هو أبدا ، ووعد الله قيام الساعة ، والظاهر أن الضمير في ( تحل ) عائد على ( قارعة ) قاله الحسن . وقالت فرقة : التاء للخطاب ، والضمير للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم بجيشك كما حل بالحديبية ، وعزاه إلى الطبري ابن عباس ومجاهد وقتادة وقاله عكرمة . ويكون ( وعد الله ) فتح مكة ، وكان الله قد وعده ذلك ، وقاله ابن عباس ومجاهد . وقرأ مجاهد : ( أو يحل ) بالياء على الغيبة ، واحتمل أن يكون عائدا على معنى القارعة ، راعى فيه التذكير ؛ لأنها بمعنى البلاء ، أو تكون الهاء في ( قارعة ) للمبالغة فذكر ، واحتمل أن يكون عائدا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ أي : ويحل الرسول قريبا . وقرأ أيضا ( وابن جبير من ديارهم ) على الجمع . وقال : القارعة : العذاب من السماء . وقال ابن عباس عكرمة : السرايا والطلائع .
وفي قوله : ( ولقد استهزئ ) الآية ، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام ، وأن حالك حال من تقدمك من الرسل ، وأن المستهزئين يملى لهم ؛ أي : يمهلون ثم يؤخذون . وتنبيه على أن حال من استهزأ بك ، وإن أمهل حال أولئك في أخذهم ، ووعيد لهم . وفي قوله : ( فكيف كان عقاب ) ؟ استفهام معناه التعجب بما حل ، وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الكفار .