وقرأ أبو مجلز : والإيصال . قال : هو مصدر أصل ؛ أي : دخل في الأصيل كما تقول : أصبح أي دخل في الإصباح ، ولما كان السؤال عن أمر واضح لا يمكن أن يدفع منه أحد ، كان جوابه من السائل . فكان السبق إليه أفصح في الاحتجاج إليهم وأسرع في قطعهم في انتظار الجواب منهم ، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقعت المبادرة إليه ، كما قال تعالى : ( ابن جني قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله ) ويبعد ما قال من أنهم جهلوا الجواب فطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل ؛ لأنه قال تعالى : ( مكي ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) فإذا كانوا مقرين بأن منشئ السماوات والأرض ومخترعها هو الله ، فكيف يقال : بأنهم جهلوا الجواب فطلبوه من السائل ؟ وقال : ( قل الله ) حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم ؛ لأنه إذا قال لهم : من رب السماوات والأرض ؟ لم يكن لهم بد من [ ص: 379 ] أن يقولوا : ( الله ) كقوله ( الزمخشري قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله ) وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك ؟ فإذا قال : هذا قولي ، قال : هذا قولك ، فيحكي إقراره تقريرا عليه واستئنافا منه ، ثم يقول له : فيلزمك على هذا القول كيت وكيت . ويجوز أن يكون تلقينا أي : إن كفوا عن الجواب فلقنهم ، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه . وقال الكرماني : قل يا محمد للكفار : من رب السماوات والأرض ؟ استفهام تقرير واستنطاق بأنهم يقولون : الله ، فإذا قالوها ( قل الله ) أي هو كما قلتم . وقيل : فإن أجابوك وإلا ( قل الله ) إذ لا جواب غير هذا ، انتهى . وهو تلخيص القولين اللذين قالهما . وقال الزمخشري البغوي : روي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا : أجب أنت ، فأمره الله فقال : قل الله ، انتهى . واستفهم بقوله : ( قل أفاتخذتم ) ؟ ! على سبيل التوبيخ والإنكار ؛ أي : بعد أن علمتم أنه تعالى هو رب السماوات والأرض تتخذون من دونه أولياء وتتركونه ، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سببا للتوحيد من علمكم وإقراركم سببا للإشراك ، ثم وصف تلك الأولياء بصفة العجز وهي كونها لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ، ومن بهذه المثابة فكيف يملك لهم نفعا أو ضرا ؟ ثم مثل ذلك حالة الكافر والمؤمن ، ثم حالة الكفر والإيمان ، وأبرز ذلك في صورة الاستفهام للذي يبادر المخاطب إلى الجواب فيه من غير فكر ولا روية بقوله : ( قل هل يستوي الأعمى والبصير ) ؟ ثم انتقل إلى الاستفهام عن الوصفين القائمين بالكافر وهو " الظلمات " وبالمؤمن وهو " النور " .
وتقدم الكلام في جمع الظلمات وإفراد النور في سورة البقرة .
وقرأ الأخوان وأبو بكر : ( أم هل تستوي ) بالياء ، والجمهور بالتاء ، " أم " في قوله : ( أم ) هل منقطعة تتقدر ببل ؟ والهمزة على المختار ، والتقدير : بل أهل تستوي ؟ وهل : وإن نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قول الشاعر :
أهل رأونا بوادي القفر ذي الأكم
وإذا جامعتها مع التصريح بها فلإن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى ، وهل بعد أم المنقطعة يجوز أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الاسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كقوله : ( أم من يملك السمع والأبصار ) ويجوز أن لا يؤتى بها بعد أم المنقطعة ؛ لأن ( أم ) تتضمنها ، فلم يكونوا ليجمعوا بين " أم والهمزة " لذلك . وقال الشاعر في عدم الإتيان بهل بعد أم والإتيان بها :هل ما علمت وما استودعت مكتوم أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته إثر الأحبة يوم البين مشكوم
ثم انتقل من خطابهم إلى الإخبار عنهم غائبا إعراضا عنهم ، وتنبيها على توبيخهم في جعل شركاء لله ، وتعجيبا منهم ، وإنكارا عليهم . وتضمن هذا الاستفهام التهكم بهم ؛ لأنه معلوم بالضرورة أن هذه الأصنام وما اتخذوها من دون الله أولياء ، وجعلوهم شركاء لا تقدر على خلق ذرة ، ولا إيجاد شيء البتة ، والمعنى : أن هؤلاء الشركاء ما هم خالقون شيئا حتى يستحقوا العبادة ، وجعلهم شركاء لله أي : جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله ، فتشابه ذلك عليهم ، فيعبدونهم . ومعلوم أنهم لا يخلقون شيئا وهم يخلقون فكيف يشركون في العبادة ؟ ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) ثم أمره تعالى فقال : ( قل الله خالق كل شيء ) أي : موجد الأشياء كلها معبوداتهم وغيرها ، وهم أيضا مقرون بذلك ، ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) واحتمل أن يكون قوله : ( وهو الواحد القهار ) داخلا تحت الأمر بـ ( قل ) فيكون قد أمر أن يخبر بأنه تعالى هو الواحد المفرد بالألوهية ، القهار الذي جميع الأشياء تحت قدرته وقهره . واحتمل أن يكون استئناف إخبار ، فيه يقال بهذين الوصفين الوحدانية والقهر . فهو [ ص: 380 ] تعالى لا يغالب ، وما سواه مقهور مربوب له عز وجل .