وتوفيت أمه " آمنة " بالأبواء وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار ، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم . وقيل : ابن أربع سنين . فلما ماتت ودفنت ، حملته أم أيمن مولاته إلى مكة إلى جده ، فكان في كفالته إلى أن توفي جده ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين ، فأوصى به إلى عمه أبي طالب .
قال : أخبرنا عمرو بن عون عن خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عباس بن عبد الرحمن ، عن كندير بن سعيد ، عن أبيه ، قال : حججت في الجاهلية ، فإذا رجل يطوف بالبيت ويرتجز يقول :
رب رد إلى راكبي محمدا يا رب رده واصطنع عندي يدا
قلت : من هذا ؟ قال : عبد المطلب ، ذهبت إبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها ، ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها ، وقد احتبس عليه ، فما برحت حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل . فقال : يا بني لقد حزنت عليك حزنا ، لا تفارقني أبدا .وقال خارجة بن مصعب ، عن عن أبيه ، عن جده ، أن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، حيدة بن معاوية اعتمر في الجاهلية ، فذكر نحوا من حديث كندير عن أبيه .
وقال إبراهيم بن محمد الشافعي ، عن أبيه ، عن أبان بن الوليد ، عن قال : حدثني أبان بن تغلب ، جلهمة بن عرفطة ، قال : إني لبالقاع من [ ص: 55 ] نمرة ، إذ أقبلت عير من أعلى نجد ، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير ، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة ، ثم نادى يا رب البنية أجرني ، وإذا شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء ، فقال : ما شأنك يا غلام ، فأنا من آل الله وأجير من استجار به ؟ قال : إن أبي مات وأنا صغير ، وإن هذا استعبدني ، وقد كنت أسمع أن لله بيتا يمنع من الظلم ، فلما رأيته استجرت به . فقال له القرشي : قد أجرتك يا غلام ، قال : وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه . قال جلهمة : فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان قعدد الحي ، فقال : إن لهذا الشيخ ابنا يعني أبا طالب . قال : فهويت رحلي نحو تهامة ، أكسع بها الجدود ، وأعلو بها الكذان ، حتى انتهيت إلى المسجد الحرام ، وإذا قريش عزين ، قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون ، فقائل منهم يقول : اعتمدوا اللات والعزى ، وقائل يقول : اعتمدوا لمناة الثالثة الأخرى . وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي : أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم عليه السلام وسلالة إسماعيل ؟ قالوا له : كأنك عنيت أبا طالب . قال : إيها . فقاموا بأجمعهم ، وقمت معهم فدققنا عليه بابه ، فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر ، عليه إزار قد اتشح به ، فثاروا إليه فقالوا : يا أبا طالب أقحط الوادي ، وأجدب العباد فهلم فاستسق ، فقال : رويدكم زوال الشمس وهبوب الريح ، فلما زاغت الشمس أو كادت ، أبو طالب معه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء ، وحوله أغيلمة ، فأخذه خرج أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ بأصبعه الغلام ، وبصبصت الأغيلمة حوله وما في السماء قزعة ، فأقبل السحاب من ههنا [ ص: 56 ] وههنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي ، وأخصب النادي والبادي ، وفي ذلك يقول أبو طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ربيع اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفضائل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل
وقال عبد الله بن شبيب - وهو ضعيف - : حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي ، قال : حدثني سعيد بن سالم ، قال : حدثنا قال : كنا مع ابن جريج ، عطاء ، فقال : سمعت ابن عباس يقول : سمعت أبي يقول : كان عبد المطلب أطول الناس قامة ، وأحسنهم وجها ، ما رآه أحد قط إلا أحبه ، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره ، ولا يجلس عليه معه أحد ، وكان الندي من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام لم يبلغ فجلس على المفرش ، فجبذه رجل فبكى ، فقال عبد المطلب وذلك بعد ما كف بصره : ما لابني يبكي ؟ قالوا له : إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه ، فقال : دعوا ابني يجلس عليه ، فإنه يحس من نفسه شرفا ، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده . قال : ومات عبد المطلب ، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين ، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي حتى دفن بالحجون .