أبو الحكم الأندلسي قاضي الجماعة بقرطبة ينسب إلى قبيلة يقال لها : كزنة ، وهو من موضع قريب من قرطبة ، يقال له : فحص البلوط .
[ ص: 174 ] كان فقيها محققا ، وخطيبا بليغا مفوها ، له اليوم المشهور الذي ملأ فيه الآذان ، وبهر العقول ، وذلك أن المستنصر بالله ، كان مشغوفا بأبي علي القالي ، يؤهله لكل مهم ، فلما ورد رسول الروم أمره أن يقوم خطيبا على العادة الجارية ، فلما شاهد أبو علي الجمع العظيم جبن فلم تحمله رجلاه ، ولا ساعده لسانه ، وفطن له منذر بن سعيد ، فوثب في الحال ، وقام مقامه ، وارتجل خطبة بديعة ، فأبهت الخلق ، وأنشد في آخرها لنفسه :
هذا المقال الذي ما عابه فند لكن صاحبه أزرى به البلد لو كنت فيهم غريبا كنت مطرفا
لكنني منهم فاغتالني النكد لولا الخلافة أبقى الله بهجتها
ما كنت أبقى بأرض ما بها أحد
ومن تصانيفه : كتاب " الإنباه عن الأحكام من كتاب الله " وكتاب " الإبانة عن حقائق أصول الديانة " .
قال ابن بشكوال في بعض كتبه : منذر بن سعيد خطيب بليغ مصقع لم يكن بالأندلس أخطب منه ، مع العلم البارع ، والمعرفة الكاملة ، واليقين في العلوم ، والدين ، والورع ، وكثرة الصيام ، والتهجد ، والصدع بالحق . كان لا تأخذه في الله لومة لائم ، وقد استسقى غير مرة ، فسقي .
ذكر أمير المؤمنين الحكم فقال : كان فقيها ، فصيحا ، خطيبا ، لم [ ص: 175 ] يسمع بالأندلس أخطب منه ، وكان أعلم الناس باختلاف العلماء ، شاعرا لبيبا أديبا ، له تصانيف حسان جدا ، وكان مذهبه النظر والجدل ، يميل إلى مذهب داود بن علي .
وذكره محمد بن حارث القروي ، فقال : كان من أهل النفاذ والتحصيل ، متدربا للمناظرة ، متخلقا بالإنصاف ، جيد الفهم ، طويل العلم ، بليغا موجزا ، يميل إلى طرق الفضائل ، ويوالي أهلها ، ويلهج بأخبار الصالحين .
حج سنة ثمان وثلاثمائة ، فأقام في رحلته أربعين شهرا ، وانصرف ، فأدخل الأندلس من علم النظر ومن علم اللغة كتبا كثيرة . وامتحنه الناصر بغيرما أمانة ، وأخرجه رسولا إلى غيرما وجه ، فخلص محمودا ، وأقام بما حمل مشكورا ، ثم ولاه قضاء كورة ماردة ثم ولاه قضاء الثغور الشرقية كلها ، ثم نقله إلى قضاء القضاة ، والصلاة بجامع الزهراء .
قال أبو محمد بن حزم : أخبرني حكم بن منذر بن سعيد ، أخبرني أبي أنه حج راجلا مع قوم رجالة ، فانقطعوا وأعوزهم الماء في الحجاز وتاهوا .
قال : فأوينا إلى غار ننتظر الموت ، فوضعت رأسي ملصقا بالجبل ، فإذا حجر كان في قبالته ، فعالجته ، فنزعته ، فانبعث الماء ، فشربنا وتزودنا .
وقال : حدثت أن رجلا وجد ابن عبد البر القاضي منذر بن سعيد في بعض الأسحار على دكان المسجد ، فعرفه ، فجلس إليه ، وقال : يا [ ص: 176 ] سيدي إنك لتغرر بخروجك ، وأنت أعظم الحكام ، وفي الناس المحكوم عليه والرقيق الدين ، فقال : يا أخي وأنى لي بمثل هذه المنزلة ؟ وأنى لي بالشهادة ، ما أخرج تعرضا للتغرر ، بل أخرج متوكلا على الله إذ أنا في ذمته . فاعلم أن قدره لا محيد عنه ، ولا وزر دونه .
قال الحسن بن محمد : قحط الناس في بعض السنين آخر مدة الناصر ، فأمر القاضي منذر بن سعيد بالبروز إلى الاستسقاء بالناس ، فصام أياما وتأهب ، واجتمع الخلق في مصلى الربض ، وصعد الناصر في أعلى قصره ليشاهد الجمع ، فأبطأ منذر ، ثم خرج راجلا متخشعا ، وقام ليخطب ، فلما رأى الحال بكى ونشج وافتتح خطبته بأن قال : سلام عليكم ، ثم سكت شبه الحسير ، ولم يكن من عادته ، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ، ثم اندفع ، فقال : سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة الآية ، استغفروا ربكم وتوبوا إليه ، وتقربوا بالأعمال الصالحة لديه ، فضج الناس بالبكاء ، وجاروا بالدعاء والتضرع ، وخطب فأبلغ ، فلم ينفض القوم حتى نزل غيث عظيم . واستسقى مرة ، فقال يهتف بالخلق : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله الآيتين فهيج الخلق على البكاء .
قال : وسمعت من يذكر أن رسول الناصر جاءه للاستسقاء ، فقال للرسول : ها أنا سائر ، فليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة في يومنا هذا ؟ فقال : ما رأيته قط أخشع منه في يومه هذا ، إنه منفرد بنفسه ، لابس أخشن الثياب ، مفترش التراب ، قد علا نحيبه واعترافه بذنوبه ، يقول : رب هذه ناصيتي بيدك ، أتراك تعذب الرعية وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم ، أن [ ص: 177 ] يفوتك مني شيء . فتهلل منذر بن سعيد ، وقال : يا غلام احمل الممطرة معك ، إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء .
قال ابن عفيف : من أخباره المحفوظة : أن أمير المؤمنين عمل في بعض سطوح الزهراء قبة بالذهب والفضة ، وجلس فيها ، ودخل الأعيان ، فجاء منذر بن سعيد ، فقال له الخليفة كما قال لمن قبله : هل رأيت أو سمعت أن أحدا من الخلفاء قبلي فعل مثل هذا ؟ فأقبلت دموع القاضي تتحدر ، ثم قال : والله ما ظننت يا أمير المؤمنين أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ ، أن أنزلك منازل الكفار ، قال : لم ؟ فقال : قال الله عز وجل : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلى قوله : والآخرة عند ربك للمتقين فنكس الناصر رأسه طويلا ، ثم قال : جزاك الله عنا خيرا وعن المسلمين ، الذي قلت هو الحق ، وأمر بنقض سقف القبة .
وخطب يوما فأعجبته نفسه ، فقال : حتى متى أعظ ولا أتعظ ، وأزجر ولا أزدجر ، أدل على الطريق المستدلين ، وأبقى مقيما مع الحائرين ، كلا إن هذا لهو البلاء المبين . اللهم فرغبني لما خلقتني له ، ولا تشغلني بما تكفلت لي به .
وقد استغرق مرة في خطبته بجامع الزهراء فأدخل فيها أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فتخير الناصر لخطابة الزهراء أحمد بن مطرف إذا حضر الناصر .
[ ص: 178 ] توفي منذر في انسلاخ ذي الحجة سنة خمس وخمسين وثلاثمائة .
وقد سمع عن عبيد الله بن يحيى بن يحيى ، وأخذ عن ابن المنذر " كتاب الإشراف " .
ومن خطبته إذ ارتجل على : أما بعد : فإن لكل حادثة مقاما ، ولكل مقام مقالا ، وليس بعد الحق إلا الضلال ، وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم ، فأصغوا إلي معشر الملأ بأسماعكم إن من الحق أن يقال للمحق : صدقت ، وللمبطل : كذبت . وإن الجليل تعالى في سمائه ، وتقدس بأسمائه ، أمر كليمه أبي علي القالي موسى أن يذكر قومه بنعم الله عندهم ، وأنا أذكركم نعم الله عليكم . وتلافيه لكم بولاية أميركم التي آمنت سربكم ، ورفعت خوفكم ، وكنتم قليلا فكثركم ، ومستضعفين فقواكم ، ومستذلين فنصركم ، ولاه الله ( أياما ) ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق ، وأحاطت بكم شعل النفاق ، حتى صرتم مثل حدقة البعير ، مع ضيق الحال والتغيير ، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء . . . إلى أن قال : فناشدتكم الله ، ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها ؟ والسبل مخوفة فآمنها ، والأموال منتهبة فأحرزها والبلاد خرابا فعمرها ، والثغور مهتضمة فحماها ونصرها .
فاذكروا آلاء الله عليكم . وذكر باقي الخطبة .
وذكر بعضهم أن مولده سنة خمس وستين ومائتين فيكون عمره تسعين سنة كاملة ، رحمه الله تعالى .