الخليفة أبو بكر عبد الكريم بن المطيع لله الفضل بن المقتدر جعفر بن المعتضد العباسي ، وأمه أم ولد .
[ ص: 119 ] نزل له أبوه -لما فلج- عن الخلافة في ذي القعدة سنة ثلاث وستين ، وكان الحل والعقد للملك عز الدولة ، وابن عمه عضد الدولة .
وكان أشقر مربوعا كبير الأنف .
قال : لما استخلف ركب وعليه البردة وبين يديه ابن الجوزي سبكتكين الحاجب ، وخلع من الغد على سبكتكين خلع السلطنة ، وعقد له اللواء ، ولقبه نصر الدولة .
ولما كان عيد الأضحى ركب الطائع إلى المصلى وعليه قباء وعمامة ، فخطب خطبة خفيفة بعد أن صلى بالناس ، فتعرض عز الدولة لإقطاع سبكتكين ، فجمع سبكتكين الأتراك فالتقوا ، فانتصر سبكتكين ، وقامت معه العامة .
وكتب عز الدولة يستنجد بعضد الدولة ، فتوانى ، وصار الناس حزبين ، فكانت السنة والديلم ينادون بشعار سبكتكين ، والشيعة ينادون بشعار عز الدولة ، ووقع القتال ، وسفكت الدماء ، وأحرق الكرخ .
وكان الطائع قويا في بدنه ، زعر الأخلاق ، وقد قطعت خطبته في العام الذي تولى خمسين يوما من بغداد ، فكانت الخطباء لا يدعون لإمام حتى أعيدت في رجب وقدم عضد الدولة فأعجبه ملك العراق ، واستمال الجند ، فشغبوا على ابن عمه عز الدولة ، فأغلق عز الدولة بابه ، وكتب عضد الدولة عن الطائع إلى الآفاق بتوليته ، ثم اضطرب أمره ، ولم يبق بيده غير بغداد ، فنفذ إلى أبيه ركن الدولة يعلمه أنه قد خاطر بنفسه وجنده ، وقد [ ص: 120 ] هذب مملكة العراق ، ورد الطائع إلى داره ، وأن عز الدولة عاص ، فغضب أبوه ، وقال لرسوله : قل له : خرجت في نصرة ابن أخي ، أو في أخذ ملكه ؟ !
فأفرج حينئذ عن عز الدولة ، وذهب إلى فارس وتزوج الطائع ببنت عز الدولة الست شهناز على مائة ألف دينار وعظم القحط ، حتى أبيع الكر بمائة وسبعين دينارا .
وفي هذا الوقت كانت الحرب متصلة بين جوهر المعزي وبين هفتكين بالشام ، حتى جرت بينهما اثنتا عشرة وقعة ، وجرت وقعة بين عز الدولة وعضد الدولة ، أسر فيها مملوك أمرد لعز الدولة فجن عليه ، وأخذ في البكاء ، وترك الأكل ، وتذلل في طلبه ، فصار ضحكة ، وبذل جاريتين عوادتين في فدائه .
وفي سنة خمس وستين حجت جميلة بنت صاحب الموصل ، فكان معها أربعمائة جمل ، وعدة محامل لا يدرى في أيها هي ، وأعتقت خمسمائة [ ص: 121 ] نفس ، وخلعت خمسين ألف ثوب ، وقيل : كان معها أربعمائة محمل .
ثم في الآخر استولى عضد الدولة على أموالها وقلاعها ، وافتقرت لكونه خطبها ، فأبت ، وآل بها الحال إلى أن هتكها وألزمها أن تختلف مع الخواطئ لتحصل ما تؤديه ، فرمت بنفسها في دجلة .
وفي سنة سبع وستين أقبل عضد الدولة في جيوشه ، وأخذ بغداد ، وتلقاه الطائع ، وعملت قباب الزينة ، ثم خرج فعمل المصاف مع عز الدولة ، فأسر عز الدولة ، ثم قتله ، ونفذ إلى الطائع ألف ألف درهم ، وخمسين ألف دينار ، وخيلا وبغالا ، ومسكا وعنبرا .
وكان الغرق العظيم ببغداد ، وبلغ الماء أحدا وعشرين ذراعا ، وغرق خلق .
وتمكن عضد الدولة ، ولقب أيضا تاج الملة وضربت له النوبة في ثلاثة أوقات وعلا سلطانه علوا لا مزيد عليه ، ومع ذلك الارتقاء فكان يخضع للطائع ، وجاءه رسول العزيز صاحب مصر ، فراسله بتودد وطلب من الطائع أن يزيد في ألقابه ، فجلس له الطائع وحوله مائة بالسيوف [ ص: 122 ] والزينة وبين يديه المصحف العثماني ، وعلى كتفه البردة وبيده القضيب ، وهو متقلد السيف وأسبلت الستارة ، ودخل الترك والديلم بلا سلاح ، ثم أذن لعضد الدولة ، ورفعت له الستارة ، فقبل الأرض ، قال : فارتاع زياد القائد ، وقال بالفارسية : أهذا هو الله ؟ فقيل له : بل خليفة الله في أرضه .
ومشى عضد الدولة ، وقبل الأرض مرات سبعا ، فقال الطائع لخادمه : استدنه . فصعد ، وقبل الأرض مرتين ، فقال : ادن إلي . فدنا حتى قبل رجله ، فثنى الطائع يده عليه ، وأمره فجلس على كرسي بعد الامتناع ، حتى قال : أقسمت لتجلسن . ثم قال : ما كان أشوقنا إليك ، وأتوقنا إلى مفاوضتك . فقال : عذري معلوم . قال : نيتك موثوق بها ، فأومأ برأسه ، فقال : قد رأيت أن أفوض إليك ما وكله الله إلي من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها سوى خاصتي وأسبابي ، فتولى ذلك مستجيرا بالله . قال : يعينني الله على طاعة مولانا أمير المؤمنين وخدمته ، وأريد كبار القواد أن يسمعوا لفظك .
قال الطائع : هاتوا الحسين بن موسى ، وابن معروف ، وابن أم شيبان . فقدموا ، فأعاد الطائع قوله بالتفويض ، ثم ألبس الخلع والتاج ، فأومأ ليقبل الأرض ، فلم يطق .
فقال الطائع : حسبك . وعقد له لواءين بيده ، ثم قال : يقرأ كتابه . فقرئ ، فقال الطائع : خار الله لنا ولك وللمسلمين ، آمرك بما أمرك الله به ، وأنهاك عما نهاك الله عنه ، وأبرأ إلى الله مما سوى ذلك ، انهض على اسم الله . ثم أعطاه بيده سيفا ثانيا غير سيف الخلعة ، وخرج من باب الخاصة ، وشق البلد .
وعمل قصيدته ، فمنها : [ ص: 123 ] أبو إسحاق الصابئ
يا عضد الدولة الذي علقت يداه من فخره بأعرقه
يفتخر النعل تحت أخمصه فكيف بالتاج فوق مفرقه ؟
وبعث إليه العزيز كتابا أوله : من عبد الله أمير المؤمنين إلى عضد الدولة أبي شجاع مولى أمير المؤمنين : سلام عليك ، مضمون الرسالة الاستمالة مع ما يشافهه به الرسول ، فبعث إليه رسولا وكتابا فيه مودة واعتذار مجمل .
وأدير المارستان العضدي في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة ، ثم مات هو في شوالها وقام ولده صمصام الدولة ، وكتم موته أربعة أشهر ، وجاء الخليفة فعزى ولده ، ولطم عليه في الأسواق أياما .
وفي سنة 376 اختلف عسكر العراق ، ومالوا إلى شرف الدولة شيرويه أخي صمصام الدولة ، فذل الصمصام وبادر إلى خدمة أخيه ، فاعتقله ثم أمر بكحله ، فمات شرف الدولة والمكحول في شهر من سنة 379 .
[ ص: 124 ] وكان شرف الدولة فيه عدل ، ووزر في أيامه أبو منصور محمد بن الحسن ، ومما قدم معه عشرون ألف ألف درهم ، وكان ذا رفق ودين ومن عدل شرف الدولة رده على السيد أبي الحسن محمد بن عمر أملاكه ، وكان مغلها في السنة أزيد من ألف ألف دينار .
وعظم الغلاء ببغداد ، حتى بيعت كارة الدقيق الخشكار بمائتين وأربعين درهما .
وفي هذا الحدود جاء بالبصرة سموم حارة فمات جماعة في الطرق وجاء " بفم الصلح " ريح خرقت دجلة حتى بانت أرضها فيما قيل ، وهدت في جامعها ، واحتملت زورقا فيه مواشي ، فطرحته بأرض جوخى فرأوه بعد أيام ، نسأل الله العافية .
ولما مات شرف الدولة جاء الطائع يعزي أخاه بهاء الدولة أبا نصر ، فقبل أبو نصر الأرض مرات ، وسلطنه الطائع بالطوق والسوارين والخلع السبع ، فأقر في وزارته أبا منصور المذكور ، ويعرف بابن [ ص: 125 ] صالحان .
وكان بهاء الدولة ذا هيبة ووقار وحزم ، وحاربه ابن صمصام الدولة الذي كحل .
وخربت البصرة والأهواز ، وعظمت الفتن ، وتواتر أخذ العملات ببغداد وتحاربت الشيعة والسنة مدة ، ثم وثبوا على الطائع لله في داره في تاسع عشر شعبان سنة 381 ، وسببه أن شيخ الشيعة ابن المعلم كان من خواص بهاء الدولة فحبس ، فجاء بهاء الدولة ، وقد جلس الطائع في الرواق متقلد السيف ، فقبل الأرض ، وجلس على كرسي ، فتقدم جماعة من أعوانه ، فجذبوا الطائع بحمائل سيفه ، ولفوه في كساء ، وأصعد في سفينته إلى دار المملكة ، وماج الناس ، وظن الجند أن القبض علىبهاء الدولة ، فوقع النهب ، وقبض على الرئيس علي بن حاجب النعمي وجماعة ، وصودروا ، واحتيط على الخزائن والخدم أيضا .
فكان الطائع هم بالقبض على ابن عمه وهو أمير ، فهرب إلى القادر بالله البطائح وانضم إلى مهذب الدولة وبقي معه عامين ، فأظهر [ ص: 126 ] بهاء الدولة أمر القادر ، وأنه أمير المؤمنين . ونودي بذلك ، وأشهد على الطائع بخلع نفسه ، وأنه سلم الخلافة إلى ، وشهد الكبراء بذلك ، ثم طلب القادر بالله القادر ، واستحثوه على القدوم ، واستبيحت دار الخلافة حتى نقض خشبها .
وكتب القادر : من عبد الله أمير المؤمنين القادر بالله إلى بهاء الدولة ، وضياء الملة أبي نصر بن عضد الدولة : سلام عليك ، أما بعد : أطال الله بقاءك ، وأدام عزك ، ورد كتابك بخلع العاصي المتلقب بالطائع لبوائقه وسوء نيته ، فقد أصبحت سيف أمير المؤمنين المبير .
ثم في السنة الآتية سلم الطائع المخلوع إلى القادر ، فأنزله في حجرة موكلا به ، وأحسن صيانته ، وكان المخلوع يطلب منه أمورا ضخمة ، وقدمت بين يديه شمعة قد استعملت فأنكر ذلك ، فأتوه بجديدة وبقي مكرما إلى أن توفي وما اتفق هذا الإكرام لخليفة مخلوع مثله .
وكانت دولته ثماني عشرة سنة وبقي بعد عزله أعواما إلى أن مات ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، فصلى عليه القادر وكبر خمسا ، [ ص: 127 ] ورثاه الشريف الرضي بقصيدة .
وعاش ثلاثا وسبعين سنة ، رحمه الله .