قال محمد بن أبي حاتم : كانت له قطعة أرض يكريها كل سنة بسبعمائة درهم . فكان ذلك المكتري ربما حمل منها إلى أبي عبد الله قثاة أو قثاتين ؛ لأن أبا عبد الله كان معجبا بالقثاء النضيج ، وكان يؤثره على البطيخ أحيانا ، فكان يهب للرجل مائة درهم كل سنة لحمله القثاء إليه أحيانا .
قال : وسمعته يقول : كنت أستغل كل شهر خمسمائة درهم ، فأنفقت كل ذلك في طلب العلم . فقلت : كم بين من ينفق على هذا الوجه ، وبين من كان خلوا من المال ، فجمع وكسب بالعلم ، حتى اجتمع له . فقال أبو عبد الله : وما عند الله خير وأبقى . [ ص: 450 ]
قال : وكنا بفربر ، وكان أبو عبد الله يبني رباطا مما يلي بخارى ، فاجتمع بشر كثير يعينونه على ذلك ، وكان ينقل اللبن ، فكنت أقول له : إنك تكفى يا أبا عبد الله ، فيقول : هذا الذي ينفعنا . ثم أخذ ينقل الزنبرات معه ، وكان ذبح لهم بقرة ، فلما أدركت القدور ، دعا الناس إلى الطعام ، وكان بها مائة نفس أو أكثر ، ولم يكن علم أنه يجتمع ما اجتمع ، وكنا أخرجنا معه من فربر خبزا بثلاثة دراهم أو أقل ، فألقينا بين أيديهم ، فأكل جميع من حضر ، وفضلت أرغفة صالحة . وكان الخبز إذ ذاك خمسة أمناء بدرهم .
قال : وكان أبو عبد الله ربما يأتي عليه النهار ، فلا يأكل فيه رقاقة ، إنما كان يأكل أحيانا لوزتين أو ثلاثا . وكان يجتنب توابل القدور مثل الحمص وغيره ، فقال لي يوما شبه المتفرج بصاحبه : يا أبا جعفر ، نحتاج في السنة إلى شيء كثير ، قلت له : قدر كم ؟ قال : أحتاج في السنة إلى أربعة آلاف درهم ، أو خمسة آلاف درهم . قال : وكان يتصدق بالكثير ، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث ، فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين ، وأقل وأكثر ، من غير أن يشعر بذلك أحد . وكان لا يفارقه كيسه . ورأيته ناول رجلا مرارا صرة فيها ثلاثمائة درهم ، -وذلك أن الرجل أخبرني بعدد ما كان فيها من بعد- فأراد أن يدعو ، فقال له أبو عبد الله : ارفق ، واشتغل بحديث آخر كيلا يعلم بذلك أحد .
قال : وكنت اشتريت منزلا بتسعمائة وعشرين درهما ، فقال : لي [ ص: 451 ] إليك حاجة تقضيها ؟ قلت : نعم ، ونعمى عين ، قال : ينبغي أن تصير إلى نوح بن أبي شداد الصيرفي ، وتأخذ منه ألف درهم ، وتحمله إلي ، ففعلت ، فقال لي : خذه إليك ، فاصرفه في ثمن المنزل . فقلت : قد قبلته منك وشكرته . وأقبلنا على الكتابة ، وكنا في تصنيف " الجامع " . فلما كان بعد ساعة ، قلت : عرضت لي حاجة لا أجترئ رفعها إليك ، فظن أني طمعت في الزيادة ، فقال : لا تحتشمني ، وأخبرني بما تحتاج ، فإني أخاف أن أكون مأخوذا بسببك ، قلت له : كيف ؟ قال : لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- آخى بين أصحابه . فذكر حديث سعد وعبد الرحمن . فقلت له : قد جعلتك في حل من جميع ما تقول ، ووهبت لك المال الذي عرضته علي ، عنيت المناصفة . وذلك أنه قال : لي جوار وامرأة ، وأنت عزب ، فالذي يجب علي أن أناصفك لنستوي في المال وغيره ، وأربح عليك في ذلك ، فقلت له : قد فعلت -رحمك الله- أكثر من ذلك إذ أنزلتني من نفسك ما لم تنزل أحدا ، وحللت منك محل الولد ، ثم حفظ علي حديثي الأول ، وقال : ما حاجتك ؟ قلت : تقضيها ؟ . قال : نعم ، وأسر بذلك . قلت : هذه الألف ، تأمر بقبوله ، واصرفه في بعض ما تحتاج إليه ، فقبله ، وذلك أنه ضمن لي قضاء حاجتي . ثم جلسنا بعد ذلك بيومين لتصنيف " الجامع " ، وكتبنا منه ذلك اليوم شيئا كثيرا إلى الظهر ، ثم صلينا الظهر ، وأقبلنا على الكتابة من غير أن نكون أكلنا شيئا ، فرآني لما كان قرب العصر شبه القلق المستوحش ، فتوهم في ملالا . وإنما كان بي الحصر غير أني لم أكن أقدر على القيام ، وكنت أتلوى اهتماما بالحصر . فدخل أبو عبد الله المنزل ، وأخرج إلي كاغدة فيها ثلاثمائة درهم ، وقال : أما إذ لم تقبل ثمن المنزل ، فينبغي أن تصرف هذا في بعض حوائجك . فجهدني ، فلم أقبل . ثم كان بعد أيام ، كتبنا إلى الظهر أيضا ، فناولني [ ص: 452 ] عشرين درهما . فقال : ينبغي أن تصرف هذه في شراء الخضر ونحو ذلك . فاشتريت بها ما كنت أعلم أنه يلائمه ، وبعثت به إليه ، وأتيت . فقال لي : بيض الله وجهك ، ليس فيك حيلة ، فلا ينبغي لنا أن نعني أنفسنا . فقلت له : إنك قد جمعت خير الدنيا والآخرة ، فأي رجل يبر خادمه بمثل ما تبرني إن كنت لا أعرف هذا ، فلست أعرف أكثر منه .
سمعت عبد الله بن محمد الصارفي يقول : كنت عند أبي عبد الله في منزله ، فجاءته جارية ، وأرادت دخول المنزل ، فعثرت على محبرة بين يديه ، فقال لها : كيف تمشين ؟ قالت : إذا لم يكن طريق ، كيف أمشي ؟ فبسط يديه ، وقال لها : اذهبي فقد أعتقتك . قال : فقيل له فيما بعد : يا أبا عبد الله ، أغضبتك الجارية ؟ قال : إن كانت أغضبتني فإني أرضيت نفسي بما فعلت .
وقال عبد الله بن عدي الحافظ : سمعت الحسن بن الحسين البزاز يقول : رأيت شيخا نحيف الجسم ، ليس بالطويل ولا بالقصير . محمد بن إسماعيل
وقال غنجار : حدثنا أحمد بن محمد بن حسين التميمي ، حدثنا أبويعلى التميمي ، سمعت جبريل بن ميكائيل بمصر يقول : سمعت يقول : لما بلغت البخاري خراسان أصبت ببعض بصري ، فعلمني رجل أن أحلق رأسي ، وأغلفه بالخطمي . ففعلت ، فرد الله علي بصري . [ ص: 453 ]
وقال محمد الوراق : دخل أبو عبد الله بفربر الحمام ، وكنت أنا في مشلح الحمام ، أتعاهد عليه ثيابه . فلما خرج ناولته ثيابه ، فلبسها ، ثم ناولته الخف ، فقال : مسست شيئا فيه شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- . فقلت : في أي موضع هو من الخف؟ فلم يخبرني . فتوهمت أنه في ساقه بين الظهارة والبطانة .