ابن حبيب
الإمام العلامة ، فقيه الأندلس أبو مروان ، عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جاهمة بن الصحابي عباس بن مرداس ، السلمي العباسي الأندلسي القرطبي المالكي ، أحد الأعلام .
ولد في حياة الإمام مالك بعد السبعين ومائة وأخذ عن : الغاز بن قيس ، وزياد شبطون ، وصعصعة بن سلام . [ ص: 103 ] ثم ارتحل في حدود سنة عشر ومائتين ، وحج ، وحمل عن : ، عبد الملك بن الماجشون ومطرف بن عبد الله اليساري ، وأسد بن موسى السنة ، ، وأصبغ بن الفرج وأبي صالح ، وإبراهيم بن المنذر الحزامي ، وعدة من أصحاب مالك ، ورجع إلى والليث قرطبة بعلم جم ، وفقه كثير . وكان موصوفا بالحذق في الفقه ، كبير الشأن ، بعيد الصيت ، كثير التصانيف إلا أنه في باب الرواية ليس بمتقن ، بل يحمل الحديث تهورا كيف اتفق ، وينقله وجادة وإجازة ، ولا يتعانى تحرير أصحاب الحديث .
صنف كتاب " الواضحة " في عدة مجلدات ، وكتاب " الجامع " ، وكتاب " فضائل الصحابة " ، وكتاب " غريب الحديث " ، وكتاب " تفسير الموطأ " ، وكتابا في " حروب الإسلام " ، وكتاب " فضل المسجدين " ، وكتاب " سيرة الإمام فيمن ألحد " ، وكتاب " طبقات [ ص: 104 ] الفقهاء " ، وكتاب " مصابيح الهدى " .
قال أبو الوليد بن الفرضي كان فقيها نحويا شاعرا عروضيا أخباريا نسابة ، طويل اللسان ، متصرفا في فنون العلم . حدث عنه : ، بقي بن مخلد ، ومحمد بن وضاح ويوسف بن يحيى المغامي ، ومطرف بن قيس ، وخلق . وآخر أصحابه موتا المغامي .
سكن إلبيرة من الأندلس مدة ، ثم استقدمه الأمير عبد الرحمن بن الحكم ، فرتبه في الفتوى بقرطبة ، وقرر معه يحيى بن يحيى في النظر والمشاورة ، فتوفي يحيى بن يحيى ، وانفرد ابن حبيب برئاسة العلم . وكان حافظا للفقه نبيلا ، إلا أنه لم يكن له علم بالحديث ، ولا يعرف صحيحه من سقيمه ، ذكر عنه أنه كان يتسهل في سماعه ، ويحمل على سبيل الإجازة أكثر روايته .
وعن أن محمد بن وضاح ، قال له : أتاني صاحبكم إبراهيم بن المنذر الحزامي بغرارة مملوءة كتبا ، فقال لي : هذا علمك تجيزه لي ؟ فقلت له : نعم . ما قرأ علي منه حرفا ، ولا قرأته عليه . [ ص: 105 ] وكان عبد الملك بن حبيب محمد بن عمر بن لبابة ، يقول : ابن حبيب عالم الأندلس ، ويحيى بن يحيى عاقلها ، وعيسى بن دينار فقيهها .
قال أبو القاسم بن بشكوال : قيل : مات لسحنون ابن حبيب . فقال : مات عالم الأندلس ! بل - والله - عالم الدنيا .
حكى بعضهم قال : هاجت الريح ، فرأيت رافعا يديه ، متعلقا بحبال المركب ، يقول : اللهم إن كنت تعلم أني إنما أردت ابتغاء وجهك وما عندك فخلصنا . قال : فسلم الله . عبد الملك بن حبيب
قال أبو عمر أحمد بن سعيد الصدفي : قلت لأحمد بن خالد : إن " الواضحة " عجيبة جدا ، وإن فيها علما عظيما فما يدخلها ؟ قال : : أول ذلك أنه حكى فيها مذاهب لم نجدها لأحد من أصحابه ، ولا نقلت عنهم .
قال أبو عمر الصدفي في " تاريخه " : كان كثير الرواية ، كثير الجمع ، يعتمد على الأخذ بالحديث ، ولم يكن يميزه ، ولا يعرف الرجال ، وكان فقيها في المسائل . قال : وكان يطعن عليه بكثرة الكتب . وذكر أنه كان يستجيز الأخذ بلا رواية ولا مقابلة ، وأنه أخذ بالإجازة كثيرا . قال : وأشير إليه بالكذب ، سمعت أحمد بن خالد يطعن عليه بذلك ، ويتنقصه غير مرة . وقال : ظهر كذبه في " الواضحة " في غير شيء ، فسمعت ، يقول : أخبرني محمد بن وضاح ابن أبي مريم ، قال : كان ابن حبيب بمصر ، فكان يضع الطويلة ، وينسخ طول نهاره . فقلت له : إلى كم ذا النسخ ، متى [ ص: 106 ] تقرؤه على الشيخ ؟ قال : قد أجاز لي كتبه ، يعني : أسد بن موسى ، فأتيت أسدا ، فقلت : تمنعنا أن نقرأ عليك ، وتجيز لغيرنا ؟ فقال : أنا لا أرى القراءة ، فكيف أجيز ؟ فأخبرته . فقال : إنما أخذ مني كتبي ، فيكتب منها ، ليس ذا علي .
وقال أحمد بن محمد بن عبد البر في " تاريخه " : ابن حبيب أول من أظهر الحديث بالأندلس ، وكان لا يفهم طرقه ، ويصحف الأسماء ، ويحتج بالمناكير ، فكان أهل زمانه ينسبونه إلى الكذب ، ولا يرضونه . وممن ضعف ابن حبيب أبو محمد بن حزم ، ولا ريب أنه كان صحفيا ، وأما التعمد ، فكلا .
قال أحمد بن محمد بن عبد البر : وكان بينه وبين يحيى بن يحيى وحشة . كان كثير المخالفة له ، لقي أصبغ بمصر ، فأكثر عنه . فكان يعارض يحيى عند الأمر ، ويرد قوله ، فيغتم لذلك . قال : فجمعهم القاضي مرة في الجامع ، فسألهم عن مسألة ، فأفتى فيها يحيى بن يحيى ، وسعيد بن حسان بالرواية ، فخالفهما عبد الملك ، وذكر خلافهما رواية عن أصبغ ، وكان عبد الأعلى بن وهب شابا ، قد حج ولحق أصبغ ، فحدثنا أحمد بن خالد ، عن ابن وضاح ، عن عبد الأعلى قال : دخلت على سعيد بن حسان ، فقال : ما تقول في كذا للمسألة المذكورة ؟ هل يذكر فيها الأصبغ شيئا ؟ قلت : نعم . يقول فيها بكذا وكذا ، فذكر موافقة سعيد ويحيى ، فقال لي سعيد : انظر ما تقول ، أنت على يقين منها ؟ قلت : نعم . قال : فأتني بكتابك ، [ ص: 107 ] فخرجت مسرعا ، ثم ندمت فأخرجتها من قرطاس ، فسررت ، وأتيته بالكتاب . قال : تمضي به إلى أبي محمد ، فمضيت به إلى يحيى بن يحيى ، فأعلمته ، فاجتمعا بالقاضي ، وقالا : هذا يخالفنا بالكذب ، فاردعه وكفه . فجمعهم القاضي ثانيا ، فتكلموا ، فقال عبد الملك : قد أعلمتك بما يقول فيها أصبغ ، فبدر عبد الأعلى ، فقال : تكذب على أصبغ ، أنا رويت هذه المسألة عنه على وفق ما قالا ، وهذا كتابي ، فقرأه القاضي ، وقال لعبد الملك : ما ساءه ، وخرح عليه ، وقال : تفتينا بالكذب والخطأ ، وتخالف أصحابك بالهوى ! لولا البقيا عليك ، لعاقبتك . قال عبد الأعلى : فلما خرجت خطرت على دار ابن رستم الحاجب ، فرأيت عبد الملك خارجا من عنده في وجهه البشر ، فقلت : لأدخلن على ابن رستم ، فدخلت ، فلم ينتظر جلوسي ، وقال : يا مسكين ، من غرك ، أو من أدخلك في هذا ؟ تعارض مثل ابن حبيب وتكذبه ؟ فقلت : أصلحك الله ، إنما سألني القاضي ، فأجبت بما عندي . قال : وبعث الأمير إلى القاضي : يقول : من أمرك أن تشاور عبد الأعلى ، فبعث يثني علي ، ويقول : لم أر نفسي في سعة من ترك مشاورة مثله . فسأل الأمير وزراءه عن عبد الأعلى ، فأثنوا عليه ، ووصفوا علمه وولاءه .
قال سعيد بن فحلون مات يوم السبت لأربع مضين من رمضان سنة ثمان وثلاثين ومائتين . بعلة الحصى ، رحمه الله . ونقل آخر أنه مات في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين . فالله أعلم . عبد الملك بن حبيب