( ( ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ( 9 ) ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ( 10 ) ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ( 11 ) ( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ( 12 ) )
ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ) يجحدون ، قال ( أبو بكر - رضي الله عنه - حين حضره الموت في وصيته رضي الله عنه : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم ، وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا ، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في [ ص: 216 ] الدنيا ، وخفته عليهم ، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا . لعمر بن الخطاب
فإن قيل : قد قال : " من ثقلت موازينه " ذكر بلفظ الجمع ، والميزان واحد ؟ قيل : يجوز أن يكون لفظه جمعا ومعناه واحد كقوله : " يا أيها الرسل " وقيل : لكل عبد ميزان ، وقيل : الأصل ميزان واحد عظيم ، ولكل عبد فيه ميزان معلق به ، وقيل جمعه ؛ لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ، ولا يتم الوزن إلا باجتماعها .
قوله تعالى : ( ولقد مكناكم في الأرض ) أي : مكناكم ، والمراد من التمكين التمليك والقدرة ، ( وجعلنا لكم فيها معايش ) أي : أسبابا تعيشون بها أيام حياتكم من التجارات والمكاسب والمآكل والمشارب ، والمعايش جمع المعيشة ، ( قليلا ما تشكرون ) فيما صنعت إليكم .
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) قال قوله - عز وجل - : ( ابن عباس : خلقناكم ، أي : أصولكم وآباءكم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم . وقال قتادة والضحاك : أما " خلقناكم " والسدي فآدم ، وأما " صورناكم " فذريته . وقال مجاهد في خلقناكم : آدم ، ثم صورناكم في ظهر آدم بلفظ الجمع ؛ لأنه أبو البشر ففي خلقه خلق من يخرج من صلبه . وقيل : خلقناكم في ظهر آدم ثم صورناكم يوم الميثاق حين أخرجكم كالذر . وقال عكرمة : خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء . وقال يمان : خلق الإنسان في الرحم ثم صوره وشق سمعه وبصره وأصابعه . وقيل : الكل آدم خلقه وصوره و " ثم " بمعنى الواو .
ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) فإن قيل : الأمر بسجود الملائكة كان قبل خلق بني آدم ، فما وجه قوله " ثم قلنا " وثم للترتيب وللتراخي ؟ قيل : على قول من يصرف الخلق والتصوير إلى آدم وحده يستقيم هذا الكلام ، أما على قول من يصرفه إلى الذرية : فعنه أجوبة : (
أحدها " ثم " بمعنى الواو ، أي : وقلنا للملائكة ، فلا تكون للترتيب والتعقيب .
وقيل : أراد " ثم " أخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا .
وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد خلقناكم ، يعني : آدم ثم قلنا للملائكة اسجدوا ثم صورناكم .
قوله تعالى : ( فسجدوا ) يعني الملائكة ، ( إلا إبليس لم يكن من الساجدين ) لآدم .
( قال ) الله تعالى يا إبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) أي : وما منعك أن تسجد [ ص: 217 ] و " لا " زائدة كقوله تعالى : " ( وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون " ( الأنبياء 95 ) . ( قال ) إبليس مجيبا ( أنا خير منه ) لأنك ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) والنار خير وأنور من الطين .
قال ابن عباس : أول من قاس إبليس فأخطأ القياس ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس .
قال ابن سيرين : ما عبدت الشمس إلا بالقياس .
قال محمد بن جرير : ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله له الفضل ، وقد فضل الله الطين على النار من وجوه منها : أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثه الاجتباء والتوبة والهداية ، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار ، فأورثه اللعنة والشقاوة ، ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها ، ولأن التراب سبب الحياة ، فإن حياة الأشجار والنبات به ، والنار سبب الهلاك .