قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "أولئك يلعنهم الله " ، هؤلاء الذين يكتمون ما أنزله الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وأمر دينه ، أنه [ ص: 254 ] الحق - من بعد ما بينه الله لهم في كتبهم - يلعنهم بكتمانهم ذلك ، وتركهم تبيينه للناس .
و"اللعنة " "الفعلة " ، من "لعنه الله " بمعنى أقصاه وأبعده وأسحقه . وأصل "اللعن " : الطرد ، كما قال الشماخ بن ضرار ، وذكر ماء ورد عليه :
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين
يعني : مقام الذئب الطريد . و"اللعين " من نعت "الذئب " ، وإنما أراد : مقام الذئب الطريد واللعين كالرجل .
فمعنى الآية إذا : أولئك يبعدهم الله منه ومن رحمته ، ويسأل ربهم اللاعنون أن يلعنهم ، لأن لعنة بني آدم وسائر خلق الله ما لعنوا أن يقولوا : "اللهم العنه " إذ كان معنى "اللعن " هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد .
وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا : من مسألتهم ربهم أن يلعنهم ، وقولهم : "لعنه الله " أو "عليه لعنة الله " ، لأن : -
2378 - محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " ، البهائم ، قال : إذا أسنتت السنة ، قالت البهائم : هذا من أجل عصاة بني آدم ، لعن الله عصاة بني آدم !
ثم اختلف أهل التأويل في من عنى الله تعالى ذكره ب "اللاعنين " . فقال بعضهم : عنى بذلك دواب الأرض وهوامها . [ ص: 255 ]
ذكر من قال ذلك :
2379 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد قال : تلعنهم دواب الأرض ، وما شاء الله من الخنافس والعقارب تقول : نمنع القطر بذنوبهم .
2380 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " قال : دواب الأرض ، العقارب والخنافس ، يقولون : منعنا القطر بخطايا بني آدم .
2381 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد : "ويلعنهم اللاعنون " قال : تلعنهم الهوام ودواب الأرض ، تقول : أمسك القطر عنا بخطايا بني آدم .
2382 - حدثنا مشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال : حدثنا ، عن وكيع سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قوله أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون قال : يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب ، يقولون : منعنا القطر بذنوب بني آدم .
2383 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ويلعنهم اللاعنون " قال : اللاعنون : البهائم .
2383 م - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "ويلعنهم اللاعنون " ، آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني البهائم ، تلعن عصاة بني آدم المطر ، فتخرج البهائم فتلعنهم .
2384 - حدثني قال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ابن وهب قال : أخبرني ، عن مسلم بن خالد ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "أولئك يلعنهم الله [ ص: 256 ] ويلعنهم اللاعنون " ، البهائم : الإبل والبقر والغنم ، فتلعن عصاة بني آدم إذا أجدبت الأرض .
فإن قال لنا قائل : وما وجه الذين وجهوا تأويل قوله : "ويلعنهم اللاعنون " ، إلى أن اللاعنين هم الخنافس والعقارب ونحو ذلك من هوام الأرض ، وقد علمت أنها إذا جمعت ما كان من نوع البهائم وغير بني آدم ، فإنما تجمعه بغير "الياء والنون " وغير "الواو والنون " ، وإنما تجمعه ب "التاء " ، وما خالف ما ذكرنا ، فتقول : "اللاعنات " ونحو ذلك ؟
قيل : الأمر وإن كان كذلك ، فإن من شأن العرب إذا وصفت شيئا من البهائم أو غيرها - مما حكم جمعه أن يكون ب"التاء " وبغير صورة جمع ذكران بني آدم - بما هو من صفة الآدميين ، أن يجمعوه جمع ذكورهم ، كما قال تعالى ذكره : ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ) [ سورة فصلت : 21 ] ، فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم ، إذ كلمتهم وكلموها ، وكما قال : ( يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) [ سورة النمل : 18 ] ، وكما قال : ( والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) [ سورة يوسف : 4 ] .
وقال آخرون : عنى الله تعالى ذكره بقوله : "ويلعنهم اللاعنون" ، الملائكة والمؤمنين .
ذكر من قال ذلك :
2385 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع سعيد ، عن قتادة : "ويلعنهم اللاعنون " ، قال : يقول : اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين . [ ص: 257 ]
2386 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "ويلعنهم اللاعنون " ، الملائكة .
2387 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : "اللاعنون " ، من ملائكة الله والمؤمنين .
وقال آخرون : يعني ب"اللاعنين " ، كل ما عدا بني آدم والجن .
ذكر من قال ذلك :
2388 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن : "ويلعنهم اللاعنون " قال : قال السدي : إن الكافر إذا وضع في قبره أتته دابة كأن عينيها قدران من نحاس ، معها عمود من حديد ، فتضربه ضربة بين كتفيه ، فيصيح ، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه ، ولا يبقى شيء إلا سمع صوته ، إلا الثقلين الجن والإنس . البراء بن عازب
2389 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون قال : الكافر إذا وضع في حفرته ، ضرب ضربة بمطرق فيصيح صيحة ، يسمع صوته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس ، فلا يسمع صيحته شيء إلا لعنه .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال : " اللاعنون " ، الملائكة والمؤمنون . لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحل بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين ، فقال تعالى ذكره : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) ، فكذلك [ ص: 258 ] اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حالة بالفريق الآخر : الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس ، هي لعنة الله ، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار ، وهم "اللاعنون " ، لأن الفريقين جميعا أهل كفر .
وأما قول من قال إن "اللاعنين " هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهوامها ، فإنه قول لا تدرك حقيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تقوم به الحجة ، ولا خبر بذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فيجوز أن يقال إن ذلك كذلك .
وإذ كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال : إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجود بخلاف [ قول ] أهل التأويل ، وهو ما وصفنا . فإن كان جائزا أن تكون البهائم وسائر خلق الله ، تلعن الذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوته ، بعد علمهم به ، وتلعن معهم جميع الظلمة - فغير جائز قطع الشهادة في أن الله عنى ب"اللاعنين " البهائم والهوام ودبيب الأرض ، إلا بخبر للعذر قاطع . ولا خبر بذلك ، وظاهر كتاب الله الذي ذكرناه دال على خلافه .