القول في وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ( 13 ) ) تأويل قوله تعالى : (
يقول تعالى ذكره : وكل إنسان ألزمناه ما قضي له أنه عامله ، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه ، وإنما قوله ( ألزمناه طائره ) مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها ، فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر ، وشقاء يورده سعيرا ، أو كان سعدا يورده جنات عدن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني ، قال : ثنا محمد بن بشار قال : ثني أبي ، عن معاذ بن هشام ، قتادة ، عن أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " جابر بن عبد الله " . لا عدوى ولا طيرة وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى [ ص: 398 ] أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) قال : الطائر : عمله ، قال : والطائر في أشياء كثيرة ، فمنه التشاؤم الذي يتشاءم به الناس بعضهم من بعض .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن قال : أخبرني ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ابن عباس ، قوله ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) قال : عمله وما قدر عليه ، فهو ملازمه أينما كان ، فزائل معه أينما زال . قال : وقال : طائره : عمله ، قال : ابن جريج : وأخبرني ابن جريج عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : عمله وما كتب الله له .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : طائره : عمله .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان; وحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو جميعا عن منصور ، عن مجاهد ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) قال : عمله .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قوله ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) قال : ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد . قال : وسمعته يقول : أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ، قال : هو ما سبق .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) : إي والله بسعادته وشقائه بعمله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : طائره : عمله .
فإن قال قائل : وكيف قال : ألزمناه طائره في عنقه إن كان الأمر على ما وصفت ، ولم يقل : ألزمناه في يديه ورجليه أو غير ذلك من أعضاء الجسد؟ قيل : لأن العنق هو موضع السمات ، وموضع القلائد والأطوقة ، وغير ذلك مما يزين أو يشين ، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة بني آدم وغيرهم [ ص: 399 ] من ذلك إلى أعناقهم وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق ، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا : ذلك بما كسبت يداه ، وإن كان الذي جر عليه لسانه أو فرجه ، فكذلك قوله ( ألزمناه طائره في عنقه ) .
واختلفت القراء في قراءة قوله ( ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) فقرأه بعض أهل المدينة ومكة ، وهو نافع وابن كثير وعامة قراء العراق ( ونخرج ) بالنون ( له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) بفتح الياء من يلقاه وتخفيف القاف منه ، بمعنى : ونخرج له نحن يوم القيامة ردا على قوله ( ألزمناه ) ، ونحن نخرج له يوم القيامة كتاب عمله منشورا ، وكان بعض قراء أهل الشام يوافق هؤلاء على قراءة قوله ( ونخرج ) ويخالفهم في قوله ( يلقاه ) فيقرؤه ( ويلقاه ) بضم الياء وتشديد القاف ، بمعنى : ونخرج له نحن يوم القيامة كتابا يلقاه ، ثم يرده إلى ما لم يسم فاعله ، فيقول : يلقى الإنسان ذلك الكتاب منشورا .
وذكر عن مجاهد ما حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا يزيد ، عن جرير بن حازم عن حميد ، عن مجاهد أنه قرأها ( ويخرج له يوم القيامة كتابا ) قال : يزيد : يعني يخرج الطائر كتابا ، هكذا أحسبه قرأها بفتح الياء ، وهي قراءة الحسن البصري وابن محيصن; وكأن من قرأ هذه القراءة وجه تأويل الكلام إلى : ويخرج له الطائر الذي ألزمناه عنق الإنسان يوم القيامة ، فيصير كتابا يقرؤه منشورا . وقرأ ذلك بعض أهل المدينة : ( ويخرج له ) بضم الياء على مذهب ما لم يسم فاعله ، وكأنه وجه معنى الكلام إلى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا ، يريد : ويخرج الله ذلك الطائر قد صيره كتابا ، إلا أنه نحاه نحو ما لم يسم فاعله .
وأولى القراءات في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه ( ونخرج ) بالنون وضمها ( له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) بفتح الياء وتخفيف القاف ، لأن الخبر جرى قبل ذلك عن الله تعالى أنه الذي ألزم خلقه ما ألزم من ذلك; فالصواب أن يكون الذي يليه خبرا عنه ، أنه هو الذي يخرجه لهم يوم القيامة ، [ ص: 400 ] أن يكون بالنون كما كان الخبر الذي قبله بالنون ، وأما قوله ( يلقاه ) فإن في إجماع الحجة من القراء على تصويب ما اخترنا من القراءة في ذلك ، وشذوذ ما خالفه ؛ الحجة الكافية لنا على تقارب معنى القراءتين : أعني ضم الياء وفتحها في ذلك ، وتشديد القاف وتخفيفها فيه; فإذا كان الصواب في القراءة هو ما اخترنا بالذي عليه دللنا ، فتأويل الكلام : وكل إنسان منكم يا معشر بني آدم ، ألزمناه نحسه وسعده ، وشقاءه وسعادته ، بما سبق له في علمنا أنه صائر إليه ، وعامل من الخير والشر في عنقه ، فلا يجاوز في شيء من أعماله ما قضينا عليه أنه عامله ، وما كتبنا له أنه صائر إليه ، ونحن نخرج له إذا وافانا كتابا يصادفه منشورا بأعماله التي عملها في الدنيا ، وبطائره الذي كتبنا له ، وألزمناه إياه في عنقه ، قد أحصى عليه ربه فيه كل ما سلف في الدنيا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) قال : هو عمله الذي عمل أحصي عليه ، فأخرج له يوم القيامة ما كتب عليه من العمل يلقاه منشورا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) : أي عمله .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ( ألزمناه طائره في عنقه ) قال : عمله ( ونخرج له ) قال : نخرج ذلك العمل ( كتابا يلقاه منشورا ) قال معمر : وتلا الحسن ( ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ) يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ، ووكل بك ملكان كريمان ، أحدهما عن يمينك ، والآخر عن يسارك . فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا مت طويت صحيفتك ، فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك .
[ ص: 401 ] حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : طائره : عمله ، ونخرج له بذلك العمل كتابا يلقاه منشورا .
وقد كان بعض أهل العربية يتأول قوله ( ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) : أي حظه من قولهم : طار سهم فلان بكذا : إذا خرج سهمه على نصيب من الأنصباء ، وذلك وإن كان قولا له وجه ، فإن تأويل أهل التأويل على ما قد بينت ، وغير جائز أن يتجاوز في تأويل القرآن ما قالوه إلى غيره ، على أن ما قاله هذا القائل ، إن كان عنى بقوله حظه من العمل والشقاء والسعادة ، فلم يبعد معنى قوله من معنى قولهم .