قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقال نوح : اركبوا في الفلك ، "بسم الله مجراها ومرساها" .
وفي الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه ، وهو قوله : ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ) فحملهم نوح فيها "وقال" لهم ، " اركبوا فيها" . فاستغني بدلالة قوله : ( وقال اركبوا فيها ) ، عن حمله إياهم فيها ، فترك ذكره .
واختلفت القرأة في قراءة قوله : ( بسم الله مجراها ومرساها ) ، فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : ( بسم الله مجراها ومرساها ) ، بضم الميم في الحرفين كليهما . وإذا قرئ كذلك كان من "أجرى" و"أرسى" ، وكان فيه وجهان من الإعراب : [ ص: 328 ]
أحدهما : الرفع بمعنى : بسم الله إجراؤها وإرساؤها فيكون "المجرى" و"المرسى" مرفوعين حينئذ بالباء التي في قوله : ( بسم الله ) .
والآخر : النصب ، بمعنى : بسم الله عند إجرائها وإرسائها ، أو وقت إجرائها وإرسائها فيكون قوله : ( بسم الله ) ، كلاما مكتفيا بنفسه ، كقول القائل عند ابتدائه في عمل يعمله : "بسم الله" ، ثم يكون "المجرى" و"المرسى" منصوبين على ما نصبت العرب قولهم : "الحمد لله سرارك و إهلالك" ، يعنون الهلال أوله وآخره ، كأنهم قالوا : "الحمد لله أول الهلال وآخره" ، ومسموع منهم أيضا : "الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك" .
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( بسم الله مجراها ومرساها ) ، بفتح الميم من "مجراها" ، وضمها من "مرساها" ، فجعلوا "مجراها" مصدرا من "جرى يجري مجرى" ، و"مرساها" من "أرسى يرسي إرساء" .
وإذا قرئ ذلك كذلك ، كان في إعرابهما من الوجهين ، نحو الذي فيهما إذا قرئا : ( مجراها ومرساها ) ، بضم الميم فيهما ، على ما بينت .
وروي عن أنه كان يقرأ ذلك : ( أبي رجاء العطاردي بسم الله مجريها ومرسيها ) ، بضم الميم فيهما ، ويصيرهما نعتا لله . وإذا قرئا كذلك ، كان فيهما أيضا وجهان من الإعراب ، غير أن أحدهما الخفض ، وهو الأغلب عليهما من وجهي الإعراب ، لأن معنى الكلام على هذه القراءة : بسم الله مجري الفلك ومرسيها ف"المجري" نعت لاسم الله . وقد يحتمل أن يكون نصبا ، وهو الوجه الثاني ، لأنه يحسن دخول الألف واللام في "المجري" و"المرسي" ، كقولك : "بسم الله [ ص: 329 ] المجريها والمرسيها" ، وإذا حذفتا نصبتا على الحال ، إذ كان فيهما معنى النكرة ، وإن كانا مضافين إلى المعرفة .
وقد ذكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك : ( مجراها ومرساها ) ، بفتح الميم فيهما جميعا ، من "جرى" و"رسا" ، كأنه وجهه إلى أنه في حال جريها وحال رسوها ، وجعل كلتا الصفتين للفلك ، كما قال عنترة :
فصبرت نفسا عند ذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
قال أبو جعفر : والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ : ( بسم الله مجراها ) ، بفتح الميم ( ومرساها ) ، بضم الميم ، بمعنى : بسم الله حين تجري وحين ترسي .
وإنما اخترت الفتح في ميم "مجراها" لقرب ذلك من قوله : ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ) ، ولم يقل : "تجرى بهم" . ومن قرأ : ( بسم الله مجراها ) ، كان الصواب على قراءته أن يقرأ : "وهي تجرى بهم " . وفي إجماعهم على قراءة ( تجري ) ، بفتح التاء دليل واضح على أن الوجه في ( مجراها ) فتح الميم . وإنما اخترنا الضم في ( مرساها ) ، لإجماع الحجة من القرأة على ضمها .
ومعنى قوله ( مجراها ) ، مسيرها ( ومرساها ) ، وقفها ، من : وقفها الله وأرساها . [ ص: 330 ]
وكان مجاهد يقرأ ذلك بضم الميم في الحرفين جميعا .
18182 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
18183 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( بسم الله مجراها ومرساها ) ، قال : حين يركبون ويجرون ويرسون .
18184 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بسم الله حين يركبون ويجرون ويرسون .
18185 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( بسم الله مجراها ومرساها ) ، قال : بسم الله حين يجرون وحين يرسون .
18186 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، في قوله : ( اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ) قال : إذا أراد أن ترسي قال : "بسم الله " فأرست ، وإذا أراد أن تجري قال "بسم الله " فجرت .
وقوله : ( إن ربي لغفور رحيم ) ، يقول : إن ربي لساتر ذنوب من تاب وأناب إليه ، رحيم بهم أن يعذبهم بعد التوبة .