القول في تأويل قوله تعالى : ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ( 83 ) )
قال أبو جعفر : يقول ، تعالى ذكره : فلم يؤمن لموسى ، مع ما أتاهم به من الحجج والأدلة ( إلا ذرية من قومه ) خائفين من فرعون وملئهم .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرية في هذا الموضع .
فقال بعضهم : الذرية في هذا الموضع : القليل .
ذكر من قال ذلك :
17774 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، قال : كان ابن عباس يقول : " الذرية " : القليل .
17775 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى : ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، " الذرية " القليل ، كما قال الله تعالى : ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) [ سورة الأنعام : 133 ]
وقال آخرون : معنى ذلك : فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان ، لأن الآباء ماتوا وبقي الأبناء ، فقيل لهم " ذرية " لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 164 ]
17776 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام عن عنبسة عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله تعالى : ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، قال : أولاد الذين أرسل إليهم من طول الزمان ، ومات آباؤهم .
17777 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
17778 - وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بنحوه .
17779 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد : ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، قال : أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم .
17780 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان عن الأعمش : ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) قال : أبناء أولئك الذين أرسل إليهم ، فطال عليهم الزمان وماتت آباؤهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون .
ذكر من قال ذلك :
17781 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) ، قال : كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل ، من قوم فرعون يسير ، منهم : امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه . [ ص: 165 ]
وقد روي عن ابن عباس خبر يدل على خلاف هذا القول ، وذلك ما :
17782 - حدثني به المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : ( ذرية من قومه ) ، يقول : بني إسرائيل .
فهذا الخبر ، ينبئ عن أنه كان يرى أن " الذرية " في هذا الموضع ، هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية ، القول الذي ذكرته عن مجاهد وهو أن " الذرية " في هذا الموضع أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل ، فهلكوا قبل أن يقروا بنبوته لطول الزمان ، فأدركت ذريتهم ، فآمن منهم من ذكر الله بموسى .
وإنما قلت : " هذا القول أولى بالصواب في ذلك " لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى ، فلأن تكون " الهاء " ، في قوله : " من قومه " من ذكر موسى لقربها من ذكره ، أولى من أن تكون من ذكر فرعون لبعد ذكره منها ، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليل ، من خبر ولا نظر .
وبعد ، فإن في قوله : ( على خوف من فرعون وملئهم ) ، الدليل الواضح على أن الهاء في قوله : ( إلا ذرية من قومه ) ، من ذكر موسى لا من ذكر فرعون لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام " على خوف منه " ولم يكن ( على خوف من فرعون ) .
وأما قوله : ( على خوف من فرعون ) ، فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرية قوم موسى بموسى فتأويل الكلام : فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، من بني إسرائيل ، وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم . [ ص: 166 ]
وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل : " فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه " لأن الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط ، فقيل لهم " الذرية " ، من أجل ذلك ، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم : " أبناء " . .
والمعروف من معنى " الذرية " في كلام العرب : أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء ، كما قال جل ثناؤه : ( ذرية من حملنا مع نوح ) ، [ سورة الإسراء : 3 ] ، وكما قال : ( ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف ) ثم قال بعد : ( وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ) ، [ سورة الأنعام : 84 ، 85 ] ، فجعل من كان من قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم .
وأما قوله : ( وملئهم ) ، فإن " الملأ " : الأشراف . وتأويل الكلام : على خوف من فرعون ومن أشرافهم .
واختلف أهل العربية فيمن عني بالهاء والميم اللتين في قوله : ( وملئهم ) ، فقال بعض نحويي البصرة : عنى بها الذرية . وكأنه وجه الكلام إلى : ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون ) وملأ الذرية من بني إسرائيل .
وقال بعض نحويي أهل الكوفة :
عنى بهما فرعون . قال : وإنما جاز ذلك وفرعون واحد ، لأن الملك إذا ذكر بخوف أو سفر أو قدوم من سفر ، ذهب الوهم إليه وإلى من معه . وقال : ألا ترى أنك تقول : " قدم الخليفة فكثر الناس " تريد ، بمن معه " وقدم فغلت الأسعار " ، لأنك تنوي بقدومه قدوم من معه . [ ص: 167 ]
قال : وقد يكون أن تريد أن ب " فرعون " آل فرعون وتحذف " الآل " فيجوز ، كما قال : ( واسأل القرية ) ، [ سورة يونس : 82 ] ، يريد أهل القرية ، والله أعلم . قال : ومثله قوله : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) ، [ سورة الطلاق : 1 ] .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : " الهاء والميم " عائدتان على " الذرية " . ووجه معنى الكلام إلى أنه : على خوف من فرعون وملأ الذرية لأنه كان في ذرية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيا وأمه إسرائيلية . فمن كان كذلك منهم ، كان مع فرعون على موسى .
وقوله : ( أن يفتنهم ) ، يقول : كان إيمان من آمن من ذرية قوم موسى على خوف من فرعون " أن يفتنهم " بالعذاب ، فيصدهم عن دينهم ، ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله .
وقال : ( أن يفتنهم ) ، فوحد ولم يقل : " أن يفتنوهم " لدليل الخبر عن فرعون بذلك : أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه ، لما قد تقدم من قوله : ( على خوف من فرعون وملئهم ) .
وقوله : ( وإن فرعون لعال في الأرض ) ، يقول ، تعالى ذكره : وإن فرعون لجبار مستكبر على الله في أرضه " وإنه لمن المسرفين " وإنه لمن المتجاوزين الحق إلى الباطل ، وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به ، وجحوده وحدانية الله ، وادعاؤه لنفسه الألوهة ، وسفكه الدماء بغير حلها .