قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ، صلى الله عليه وسلم : ( واتل ) على هؤلاء المشركين الذي قالوا : ( اتخذ الله ولدا ) من قومك ( نبأ نوح ) يقول : خبر نوح ( إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي ) يقول : إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشق عليكم ، ( وتذكيري بآيات الله ) يقول ، ووعظي إياكم بحجج الله ، وتنبيهي إياكم على ذلك ( فعلى الله توكلت ) ، يقول : إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم ، وتذكيري بآيات الله ، فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم ، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي ، وهو سندي وظهري ( فأجمعوا أمركم ) يقول : فأعدوا أمركم ، واعزموا على ما تنوون عليه في أمري .
يقال منه : " أجمعت على كذا " بمعنى : عزمت عليه .
ومنه قول النبي [ ص: 148 ] صلى الله عليه وسلم : " بم عنى : من لم يعزم ، ومنه قول الشاعر : من لم يجمع على الصوم من الليل فلا صوم له
يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع
وروي عن في ذلك ما : الأعرج
17760 - حدثني بعض أصحابنا ، عن عبد الوهاب ، عن هارون عن أسيد عن ( الأعرج : فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) ، يقول : أحكموا أمركم ، وادعوا شركاءكم .
ونصب قوله : ( وشركاءكم ) ، بفعل مضمر له ، وذلك : " وادعوا شركاءكم " وعطف ب " الشركاء " على قوله : ( أمركم ) ، على نحو قول الشاعر : [ ص: 149 ]
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
فالرمح لا يتقلد ، ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليل على ما حذف ، اكتفي بذكر ما ذكر منه مما حذف ، فكذلك ذلك في قوله : ( وشركاءكم ) .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته قرأة الأمصار : ( وشركاءكم ) نصبا ، وقوله : ( فأجمعوا ) بهمز الألف وفتحها ، من : " أجمعت أمري فأنا أجمعه إجماعا .
وذكر عن أنه كان يقرؤه : ( الحسن البصري فأجمعوا أمركم ) ، بفتح الألف وهمزها ( وشركاؤكم ) ، بالرفع على معنى : وأجمعوا أمركم ، وليجمع أمرهم أيضا معكم شركاؤكم .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك قراءة من قرأ : ( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) ، بفتح الألف من " أجمعوا " ونصب " الشركاء " لأنها في المصحف بغير واو ، ولإجماع الحجة على القراءة بها ورفض ما خالفها ، ولا يعترض عليها بمن يجوز عليه الخطأ والسهو .
وعني ب " الشركاء " آلهتهم وأوثانهم .
وقوله : ( ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) يقول : ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسا مشكلا مبهما . [ ص: 150 ]
من قولهم : " غم على الناس الهلال " وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبينوه ، ومنه قول العجاج :
بل لو شهدت الناس إذ تكموا بغمة لو لم تفرج غموا
وقيل : إن ذلك من " الغم " لأن الصدر يضيق به ، ولا يتبين صاحبه لأمره مصدرا يصدره يتفرج عليه ما بقلبه ، ومنه قول خنساء :
وذي كربة راخى ابن عمرو خناقه وغمته عن وجهه فتجلت
وكان قتادة يقول في ذلك ما :
17761 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة : ( أمركم عليكم غمة ) ، قال : لا يكبر عليكم أمركم .
وأما قوله : ( ثم اقضوا إلي ) ، فإن معناه : ثم امضوا إلي ما في أنفسكم وافرغوا منه ، كما :
17762 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة : ( ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) قال : اقضوا إلي ما كنتم قاضين .
17763 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : ( ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) ، قال : اقضوا إلي ما في أنفسكم . [ ص: 151 ]
17764 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد مثله .
واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله : ( ثم اقضوا إلي ) . .
فقال بعضهم : معناه : امضوا إلي ، كما يقال : " قد قضى فلان " يراد : قد مات ومضى .
وقال آخرون منهم : بل معناه : ثم افرغوا إلي ، وقالوا : " القضاء " الفراغ ، والقضاء من ذلك . قالوا : وكأن " قضى دينه " من ذلك ، إنما هو فرغ منه .
وقد حكي عن بعض القراء أنه قرأ ذلك : ( ثم أفضوا إلي ) ، بمعنى : توجهوا إلي حتى تصلوا إلي ، من قولهم : " قد أفضى إلي الوجع وشبهه " .
وقوله : ( ولا تنظرون ) يقول : ولا تؤخرون .
من قول القائل : " أنظرت فلانا بما لي عليه من الدين " .
قال أبو جعفر : وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه : إنه بنصرة الله له عليهم واثق ، ومن كيدهم وبوائقهم غير خائف ، وإعلام منه لهم أن آلهتهم لا تضر ولا تنفع ، يقول لهم : امضوا ما تحدثون أنفسكم به في ، على عزم منكم صحيح ، واستعينوا من شايعكم علي بآلهتكم التي تدعون من دون الله ، [ ص: 152 ] ولا تؤخروا ذلك ، فإني قد توكلت على الله ، وأنا به واثق أنكم لا تضروني إلا أن يشاء ربي .
وهذا وإن كان خبرا من الله تعالى عن نوح فإنه حث من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التأسي به ، وتعريف منه سبيل الرشاد فيما قلده من الرسالة والبلاغ عنه .