هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء ، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أي : بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ; ثم تتزوج إن شاءت ، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت ، فإنها تعتد عندهم بقرءين ، لأنها على النصف من الحرة ، والقرء لا يتبعض فكمل لها قرءان . ولما رواه عن ابن جريح مظاهر بن أسلم المخزومي المدني ، عن القاسم ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان "
[ ص: 607 ]
رواه أبو داود ، والترمذي . ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية . وقال الحافظ وابن ماجه وغيره : الصحيح أنه من قول الدارقطني نفسه . القاسم بن محمد
ورواه ابن ماجه من طريق عطية العوفي عن ابن عمر مرفوعا . قال : والصحيح ما رواه الدارقطني سالم ونافع ، عن ابن عمر قوله . وهكذا روي عن . قالوا : ولم يعرف بين الصحابة خلاف . وقال بعض السلف : بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية ; ولأن هذا أمر جبلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواء ، والله أعلم ، حكى هذا القول الشيخ عمر بن الخطاب أبو عمر بن عبد البر ، عن وبعض أهل الظاهر ، وضعفه . محمد بن سيرين
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا عن إسماعيل يعني ابن عياش عمرو بن مهاجر ، عن أبيه : أن قالت : طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله ، عز وجل ، حين طلقت أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية أسماء العدة للطلاق ، فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق ، يعني : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء .
هذا حديث غريب من هذا الوجه .
وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في ما هو ؟ على قولين : المراد بالأقراء
أحدهما : أن المراد بها : الأطهار ، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ، حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة ، قال الزهري : فذكرت ذلك فقالت : صدق لعمرة بنت عبد الرحمن ، عروة . وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا : إن الله تعالى يقول في كتابه : ( ثلاثة قروء فقالت عائشة : صدقتم ، وتدرون ما الأقراء ؟ إنما الأقراء : الأطهار .
وقال مالك : عن ابن شهاب ، سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول : ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك ، يريد قول عائشة . وقال مالك : عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يقول : إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها . وقال مالك : وهو الأمر عندنا . وروي مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت ، وسالم ، والقاسم ، وعروة ، ، وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وأبان بن عثمان ، وعطاء بن أبي رباح ، وقتادة ، وبقية الفقهاء السبعة ، وهو مذهب والزهري ، مالك ، [ وغير واحد ، والشافعي وداود وهو رواية عن وأبي ثور ، أحمد ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : ( فطلقوهن لعدتهن ) [ الطلاق : 1 ] أي : في الأطهار . ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبا ، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ; ولهذا قال هؤلاء : إن المعتدة [ ص: 608 ] تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ، وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يوما ولحظتان ] .
واستشهد أبو عبيد وغيره على ذلك بقول الشاعر وهو الأعشى :
ففي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة عدا ، وفي الحي رفعة لما
ضاع فيها من قروء نسائكا
والقول الثاني : أن المراد بالأقراء : الحيض ، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة ، زاد آخرون : وتغتسل منها . وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة . قال الثوري : عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كنا عند رضي الله عنه ، فجاءته امرأة فقالت : إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني [ وقد وضعت مائي ] وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي . فقال عمر بن الخطاب ، عمر [ ما ترى ؟ قال ] : أراها امرأته ، ما دون أن تحل لها الصلاة . قال [ لعبد الله يعني ابن مسعود عمر : ] وأنا أرى ذلك .
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ، وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت ، وأنس بن مالك ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وأبي بن كعب ، وأبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة ، والأسود ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة ، والشعبي ، والربيع ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، ومكحول ، والضحاك ، أنهم قالوا : الأقراء : الحيض . وعطاء الخراساني ،
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وأصح الروايتين عن الإمام وحكى عنه أحمد بن حنبل ، الأثرم أنه قال : الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : الأقراء الحيض . وهو مذهب الثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، ، والحسن بن صالح بن حي وأبي عبيد ، . وإسحاق ابن راهويه
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود من طريق والنسائي ، المنذر بن المغيرة ، عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : . فهذا لو صح لكان صريحا في أن القرء هو الحيض ، ولكن " دعي الصلاة أيام [ ص: 609 ] أقرائك " المنذر هذا قال فيه أبو حاتم : مجهول ليس بمشهور . وذكره في الثقات . ابن حبان
وقال ابن جرير : أصل القرء في كلام العرب : " الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم " . وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركا بين هذا وهذا ، وقد ذهب إليه بعض [ العلماء ] الأصوليين فالله أعلم . وهذا قول الأصمعي : أن القرء هو الوقت . وقال أبو عمرو بن العلاء : العرب تسمي الحيض : قرءا ، وتسمي الطهر : قرءا ، وتسمي الحيض مع الطهر جميعا : قرءا . وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر ، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين .
وقوله : ( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن أي : من حبل أو حيض . قاله ابن عباس ، ، وابن عمر ومجاهد ، والشعبي ، والحكم بن عيينة والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغير واحد .
وقوله : ( إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر تهديد لهن على قول خلاف الحق . ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن ; لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتين ، وتتعذر إقامة البينة غالبا على ذلك ، فرد الأمر إليهن ، وتوعدن فيه ، لئلا تخبر بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة ، أو رغبة منها في تطويلها ، لما لها في ذلك من المقاصد . فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان .
وقوله : ( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا أي : إذا كان مراده بردتها الإصلاح والخير . وهذا في الرجعيات . فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن ، وإنما صار ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث ، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن . وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين ، من استشهادهم على مسألة عود الضمير هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا ؟ بهذه الآية الكريمة ، فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه ، والله أعلم . وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها ،
وقوله : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف أي : ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته ، في حجة الوداع : . وفي حديث " فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " بهز بن حكيم ، معاوية بن حيدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا ؟ [ ص: 610 ] قال : " أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت " . وقال عن عن وكيع بشير بن سليمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة ; لأن الله يقول : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف رواه ابن جرير ، . وابن أبي حاتم
وقوله : ( وللرجال عليهن درجة أي : في الفضيلة في الخلق ، والمنزلة ، وطاعة الأمر ، والإنفاق ، والقيام بالمصالح ، والفضل في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) [ النساء : 34 ] .
وقوله : والله عزيز حكيم أي : عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ، حكيم في أمره وشرعه وقدره .