( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ( 76 ) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ( 77 ) ) .
قيل : نزلت في اليهود ، إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء ، وترك سكنى المدينة .
وهذا القول ضعيف ؛ لأن هذه الآية مكية ، وسكنى المدينة بعد ذلك .
وقيل : إنها نزلت بتبوك . وفي صحته نظر .
قال ، عن البيهقي ، عن الحاكم الأصم ، عن ، عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن يونس بن بكير عبد الحميد بن بهرام ، عن ، عن شهر بن حوشب عبد الرحمن بن غنم ؛ أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا : يا أبا القاسم ، إن كنت صادقا أنك نبي ، فالحق بالشام ؛ فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء . فصدق ما قالوا ، ، لا يريد إلا فغزا غزوة تبوك الشام . فلما بلغ تبوك ، أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة : ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ) إلى قوله : ( تحويلا ) فأمره الله بالرجوع إلى المدينة ، وقال : فيها محياك ومماتك ، ومنها تبعث . [ ص: 101 ]
وفي هذا الإسناد نظر . والأظهر أن هذا ليس بصحيح ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود ، إنما غزاها امتثالا لقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) [ التوبة : 123 ] ، وقوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ] . وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة ، من أصحابه ، والله أعلم . ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه ، عن الوليد بن مسلم عفير بن معدان ، عن ، عن سليم بن عامر أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : : أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة مكة ، والمدينة ، والشام " . قال " الوليد : يعني بيت المقدس . وتفسير الشام بتبوك أحسن مما قال الوليد : إنه بيت المقدس والله أعلم .
وقيل : نزلت في كفار قريش ، هموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم ، فتوعدهم الله بهذه الآية ، وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرا . وكذلك وقع ، فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف . حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد ، فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم ، فقتل أشرافهم وسبى سراتهم ؛ ولهذا قال : ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ) أي : هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم : يخرج الرسول من بين أظهرهم : ويأتيهم العذاب . ولولا أنه عليه [ الصلاة و ] السلام رسول الرحمة ، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ؛ ولهذا قال تعالى : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) [ الأنفال : 33 ] .