ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فيه مسألتان : قوله تعالى :
الأولى : قوله تعالى : جناح أي إثم ، وهو اسم ليس . أن تبتغوا في موضع نصب [ ص: 383 ] خبر ليس ، أي في أن تبتغوا ، وعلى قول الخليل أنها في موضع خفض ، ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال رخص في التجارة ، المعنى : لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله ، وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة ، قال الله تعالى : والكسائي فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، والدليل على صحة هذا ما رواه عن البخاري ابن عباس قال : عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت : كانت ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج .
الثانية : إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على جواز للحاج مع أداء العبادة ، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه ، خلافا للفقراء . أما إن الحج دون تجارة أفضل ، لعروها عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها . روى التجارة في الحج في سننه عن الدارقطني أبي أمامة التيمي قال : إني رجل أكري في هذا الوجه ، وإن ناسا يقولون إنه لا حج لك ، فقال لابن عمر ابن عمر : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله مثل هذا الذي سألتني ، فسكت حتى نزلت هذه الآية : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لك حجا .
قوله تعالى : قلت فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين فيه ست عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : فإذا أفضتم أي اندفعتم ، ويقال : فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصب عن نواحيه ، ورجل فياض ، أي مندفق بالعطاء . قال زهير :
وأبيض فياض يداه غمامة على معتفيه ما تغب فواضله
وحديث مستفيض ، أي شائع .
الثانية : قوله تعالى : " من عرفات " قراءة الجماعة عرفات بالتنوين ، وكذلك لو [ ص: 384 ] سميت امرأة بمسلمات ; لأن التنوين هنا ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه ، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين . قال النحاس : هذا الجيد . وحكى عن العرب حذف التنوين من سيبويه عرفات ، يقوله : هذه عرفات يا هذا ، ورأيت عرفات يا هذا ، بكسر التاء وبغير تنوين ، قال : لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين ، وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء ، تشبيها بتاء فاطمة وطلحة ، وأنشدوا :
تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال
والقول الأول أحسن ، وأن التنوين فيه على حده في مسلمات ، الكسرة مقابلة الياء في مسلمين ، والتنوين مقابل النون . وعرفات : اسم علم ، سمي بجمع كأذرعات ، وقيل : سمي بما حوله ، كأرض سباسب ، وقيل : سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها ، وقيل : لأن آدم لما هبط وقع بالهند ، وحواء بجدة ، فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة وتعارفا ، فسمي اليوم عرفة ، والموضع عرفات ، قاله الضحاك ، وقيل غير هذا لما تقدم ذكره عند قوله تعالى : وأرنا مناسكنا . قال ابن عطية : والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع ، وعرفة هي نعمان الأراك ، وفيها يقول الشاعر :
تزودت من نعمان عود أراكة لهند ولكن من يبلغه هندا
وقيل : هي مأخوذة من العرف وهو الطيب ، قال الله تعالى : عرفها لهم أي طيبها ، فهي طيبة بخلاف منى التي فيها الفروث والدماء ، فلذلك سميت عرفات . ويوم الوقوف يوم عرفة ، وقال بعضهم : أصل هذين الاسمين من الصبر ، يقال : رجل عارف . إذا كان صابرا خاشعا ، ويقال في المثل : النفس عروف وما حملتها تتحمل . قال [ عنترة ] :
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
وقال : ذو الرمة
[ إذا خاف شيئا وقرنه طبيعة ] عروف لما خطت عليه المقادر
[ ص: 385 ] أي صبور على قضاء الله ، فسمي بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم ، وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمال الشدائد ، لإقامة هذه العبادة .
الثالثة : أجمع أهل العلم على أن بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال ، وأجمعوا على تمام حج من من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل ، إلا وقف مالك بن أنس فإنه قال : لا بد أن يأخذ من الليل شيئا ، وأما بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه ، والحجة للجمهور مطلق قوله تعالى : من وقف فإذا أفضتم من عرفات ولم يخص ليلا من نهار ، وحديث عروة بن مضرس قال : جمع ، فقلت يا رسول الله ، جئتك من جبلي طيئ أكللت مطيتي ، وأتعبت نفسي ، والله إن تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد قضى تفثه وتم حجه . أخرجه غير واحد من الأئمة ، منهم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من أبو داود والنسائي واللفظ له وقال والدارقطني الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال أبو عمر : حديث عروة بن مضرس الطائي حديث ثابت صحيح ، رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس ، منهم إسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة وعبد الله بن أبي السفر ومطرف ، كلهم عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام ، وحجة مالك من السنة الثابتة : حديث جابر الطويل ، خرجه مسلم ، وفيه : ، وأفعاله على الوجوب ، لا سيما في الحج وقد قال : فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص . خذوا عني مناسككم
الرابعة : واختلف الجمهور فيمن ماذا عليه مع صحة الحج ، فقال أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع عطاء وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي وغيرهم : عليه دم ، وقال وأبو ثور : عليه هدي ، وقال الحسن البصري : عليه بدنة ، وقال ابن جريج مالك : عليه [ ص: 386 ] حج قابل ، والهدي ينحره في حج قابل ، وهو كمن فاته الحج . فإن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فقال : لا شيء عليه ، وهو قول الشافعي أحمد وإسحاق وداود ، وبه قال الطبري ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يسقط عنه الدم وإن رجع بعد غروب الشمس ، وبذلك قال والثوري أبو ثور .
الخامسة : ولا خلاف بين العلماء في أن بعرفة راكبا لمن قدر عليه أفضل ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك وقف إلى أن دفع منها بعد غروب الشمس ، وأردف الوقوف أسامة بن زيد وهذا محفوظ في حديث جابر الطويل وحديث علي ، وفي حديث ابن عباس أيضا . قال جابر : ( أسامة بن زيد خلفه . . . ) الحديث . فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا ، ما دام يقدر ، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف ، وفي الوقوف راكبا مباهاة وتعظيم للحج ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب . قال ابن وهب في موطئه قال لي مالك : بعرفة على الدواب والإبل أحب إلي من أن أقف قائما ، قال : ومن وقف قائما فلا بأس أن يستريح . الوقوف
السادسة : ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد أنه عليه السلام عرفة يسير العنق فإذا وجد فجوة نص قال كان إذا أفاض من : والنص فوق العنق وهكذا ينبغي على أئمة الحاج فمن دونهم ; لأن في هشام بن عروة المزدلفة استعجال الصلاة بها ، ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء استعجال السير إلى بالمزدلفة ، وتلك سنتها ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
السابعة : ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على عرفة كلها موقف ، قال صلى الله عليه وسلم : [ ص: 387 ] أن وعرفة كلها موقف رواه ووقفت ها هنا مسلم وغيره من حديث جابر الطويل ، وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر . قال : هذا الحديث يتصل من حديث ابن عبد البر ، ومن حديث جابر بن عبد الله ابن عباس ، ومن حديث علي بن أبي طالب ، وأكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة ، وبطن محسر من المزدلفة ، وكذلك نقلها الحفاظ الثقات الأثبات من أهل الحديث في حديث عن أبيه عن جعفر بن محمد جابر . قال أبو عمر : واختلف الفقهاء بعرفة بعرنة ، فقال فيمن وقف مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه : يهريق دما وحجه تام ، وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك ، وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجه فائت ، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة ، وروي عن ابن عباس قال : من أفاض من عرنة فلا حج له ، وهو قول ابن القاسم وسالم ، وذكر ابن المنذر هذا القول عن ، قال وبه أقول : لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يوقف به . قال الشافعي : الاستثناء ابن عبد البر ببطن عرنة من عرفة لم يجئ مجيئا تلزم حجته ، لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع ، وحجة من ذهب مذهب أبي المصعب أن بعرفة فرض الوقوف مجمع عليه في موضع معين ، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف . وبطن عرنة يقال بفتح الراء وضمها ، وهو بغربي مسجد عرفة ، حتى لقد قال بعض العلماء : إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة ، وحكى عن الباجي ابن حبيب أن عرفة في الحل ، وعرنة في الحرم . قال أبو عمر : وأما بطن محسر فذكر : حدثنا وكيع سفيان عن عن أبي الزبير جابر بطن محسر . أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في
الثامنة : ولا بأس عرفة بغير عرفة ، تشبيها بأهل بالتعريف في المساجد يوم عرفة . روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال : أول من صنع ذلك ابن عباس بالبصرة . يعني اجتماع الناس يوم عرفة في المسجد بالبصرة ، وقال موسى بن أبي عائشة : رأيت عمر بن حريث يخطب يوم عرفة وقد اجتمع الناس إليه ، وقال الأثرم : سألت عن التعريف في الأمصار ، [ ص: 388 ] يجتمعون يوم أحمد بن حنبل عرفة ، فقال : أرجو ألا يكون به بأس ، قد فعله غير واحد : الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع ، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة .
التاسعة : في عرفة : يوم فضل يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم ، يكفر الله فيه الذنوب العظام ، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال ، قال صلى الله عليه وسلم : عرفة يكفر السنة الماضية والباقية . أخرجه الصحيح ، وقال صلى الله عليه وسلم : صوم يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وروى أفضل الدعاء دعاء يوم عن الدارقطني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء ، وفي الموطأ عن ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر . قيل : وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ قال : أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة . قال ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم أبو عمر : روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن عن إبراهيم بن أبي عبلة طلحة بن عبيد بن كريز عن أبيه ، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء ، والصواب ما في الموطأ ، وذكر في نوادر الأصول : حدثنا الترمذي الحكيم حاتم بن [ ص: 389 ] نعيم التميمي أبو روح قال حدثنا قال حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي عبد القاهر بن السري السلمي قال حدثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جده عباس بن مرداس عرفة بالمغفرة والرحمة ، وأكثر الدعاء فأجابه : إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها . قال : يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشية ، فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه : إني قد غفرت لهم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : تبسمت يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها ؟ فقال : تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثي التراب على رأسه ويفر ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية أبو عبد الغني الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا مالك عن عن أبي الزناد عن الأعرج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له . قال أبو عمر : هذا حديث غريب من حديث مالك ، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه وأبو عبد الغني لا أعرفه ، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد ، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام .
العاشرة : استحب أهل العلم عرفة إلا صوم يوم بعرفة . روى الأئمة واللفظ للترمذي عن ابن عباس بعرفة ، وأرسلت إليه أم الفضل بلبن فشرب . قال : حديث حسن صحيح . وقد روي عن أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر ابن عمر قال : عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه ، ومع عمر فلم يصمه والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم ، يستحبون الإفطار حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه - يعني يوم بعرفة ليتقوى به الرجل على الدعاء ، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة ، وأسند عن ابن عمر مثل الحديث الأول ، وزاد في آخره : ومع عثمان فلم يصمه ، [ ص: 390 ] وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه ، حديث حسن ، وذكره ابن المنذر . وقال عطاء في صوم يوم عرفة : أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف . وقال يحيى الأنصاري : يجب الفطر يوم عرفة ، وكان عثمان بن أبي العاصي وابن الزبير يصومون يوم وعائشة عرفة . قال ابن المنذر : الفطر يوم عرفة بعرفات أحب إلي ، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصوم بغير عرفة أحب إلي ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرفة فقال : يكفر السنة الماضية والباقية ، وقد روينا عن سئل عن صوم يوم عطاء أنه قال : من أفطر يوم عرفة ليتقوى على الدعاء فإن له مثل أجر الصائم .
الحادية عشرة : في فاذكروا الله عند المشعر الحرام أي اذكروه بالدعاء قوله تعالى : المشعر الحرام ، ويسمى والتلبية عند جمعا لأنه يجمع ثم المغرب والعشاء ، قاله قتادة ، وقيل : لاجتماع آدم فيه مع حواء ، وازدلف إليها ، أي دنا منها ، وبه سميت المزدلفة . ويجوز أن يقال : سميت بفعل أهلها ; لأنهم يزدلفون إلى الله ، أي يتقربون بالوقوف فيها . وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة ; لأنه معلم للحج والصلاة والمبيت به ، والدعاء عنده من شعائر الحج ، ووصف بالحرام لحرمته .
الثانية عشرة : ثبت بالمزدلفة جميعا ، وأجمع أهل العلم - لا اختلاف بينهم - أن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بجمع بين المغرب والعشاء ، واختلفوا فيمن صلاها قبل أن يأتي السنة أن يجمع الحاج جمعا ، فقال مالك : من وقف مع الإمام ودفع بدفعه فلا يصلي حتى يأتي المزدلفة فيجمع بينها ، واستدل على ذلك بقوله : الصلاة أمامك . قال لأسامة بن زيد ابن حبيب : من صلى قبل أن يأتي المزدلفة دون عذر يعيد متى ما علم ، بمنزلة من قد صلى قبل الزوال ، لقوله عليه السلام : الصلاة أمامك ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال أشهب : لا إعادة عليه ، إلا أن يصليهما قبل مغيب الشفق فيعيد العشاء وحدها ، وبه قال ، وهو الذي نصره الشافعي القاضي أبو الحسن ، واحتج له بأن هاتين صلاتان سن الجمع بينهما ، [ ص: 391 ] فلم يكن ذلك شرطا في صحتهما ، وإنما كان على معنى الاستحباب ، كالجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، واختار ابن المنذر هذا القول ، وحكاه عن عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وأبي ثور ويعقوب ، وحكي عن أنه قال : لا يصلي حتى يأتي الشافعي المزدلفة ، فإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما .
الثالثة عشرة : ومن أسرع فأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق فقد قال ابن حبيب : لا صلاة لمن عجل إلى المزدلفة قبل مغيب الشفق [ لا لإمام ولا غيره حتى يغيب الشفق ] لقوله عليه السلام : الصلاة أمامك ثم صلاها بالمزدلفة بعد مغيب الشفق [ ومن جهة المعنى أن وقت هذه الصلاة بعد مغيب الشفق ] فلا يجوز أن يؤتى بها قبله ، ولو كان لها وقت قبل مغيب الشفق لما أخرت عنه .
الرابعة عشرة : وأما عرفة بعد دفع الإمام ، أو كان له عذر ممن وقف مع الإمام فقد قال من أتى ابن المواز : من وقف بعد الإمام فليصل كل صلاة لوقتها ، وقال مالك فيمن كان له عذر يمنعه أن يكون مع الإمام : إنه يصلي إذا غاب الشفق الصلاتين يجمع بينهما ، وقال ابن القاسم فيمن وقف بعد الإمام : إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل فليؤخر الصلاة حتى يأتي المزدلفة ، وإلا صلى كل صلاة لوقتها ، فجعل ابن المواز تأخير الصلاة إلى المزدلفة لمن وقف مع الإمام دون غيره ، وراعى مالك الوقت دون المكان ، واعتبر ابن القاسم الوقت المختار للصلاة والمكان ، فإذا خاف فوات الوقت المختار بطل اعتبار المكان ، وكان مراعاة وقتها المختار أولى .
الخامسة عشرة : اختلف العلماء في بالمزدلفة على وجهين : أحدهما : الأذان والإقامة ، والآخر : هل يكون جمعهما متصلا لا يفصل بينهما بعمل ، أو يجوز العمل بينهما وحط الرحال ونحو ذلك ، فأما الأذان والإقامة فثبت أن هيئة الصلاة بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين . أخرجه الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء جابر الطويل ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وابن المنذر . وقال مالك : يصليهما بأذانين وإقامتين ، وكذلك الظهر والعصر بعرفة ، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع . قال أبو عمر : لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه ، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب ، وزاد ابن المنذر ابن مسعود ، ومن الحجة لمالك في هذا الباب من جهة النظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن في [ ص: 392 ] الصلاتين بمزدلفة وعرفة أن الوقت لهما جميعا وقت واحد ، وإذا كان وقتهما واحدا وكانت كل صلاة تصلى في وقتها لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من الأخرى ; لأن ليس واحدة منهما تقضى ، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها ، وكل صلاة صليت في وقتها سنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة ، وهذا بين ، والله أعلم ، وقال آخرون : أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة ، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة . قالوا : وإنما أمر عمر بالتأذين الثاني لأن الناس قد تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم . قالوا : وكذلك نقول إذا تفرق الناس عن الإمام لعشاء أو غيره ، أمر المؤذنين فأذنوا ليجمعهم ، وإذا أذن أقام . قالوا : فهذا معنى ما روي عن عمر ، وذكروا حديث عبد الرحمن بن يزيد قال : كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين ، وفي طريق أخرى وصلى كل صلاة بأذان وإقامة ، ذكره عبد الرزاق ، وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شيء منهما ، روي عن ابن عمر وبه قال الثوري ، وذكر عبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال : بجمع ، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بين المغرب والعشاء جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ، وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس بن عبيد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ، لم يجعل بينهما شيئا ، وروي مثل هذا مرفوعا من حديث خزيمة بن ثابت ، وليس بالقوي ، وحكى الجوزجاني عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين ، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط ، وإلى هذا ذهب لحديث الطحاوي جابر ، وهو القول الأول وعليه المعول . وقال آخرون : تصلى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما ، وممن قال ذلك وأصحابه الشافعي وإسحاق في أحد قوليه ، وهو قول وأحمد بن حنبل سالم بن عبد الله ، واحتجوا بما ذكره والقاسم بن محمد عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء ، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئا قال أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء أبو عمر : والآثار عن ابن عمر في هذا القول من أثبت ما روي عنه في هذا الباب ، ولكنها محتملة للتأويل ، وحديث جابر لم يختلف فيه ، فهو أولى ، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر ، وإنما فيها الاتباع .
السادسة عشرة : وأما الفصل بين الصلاتين بعمل غير الصلاة فثبت عن أسامة بن زيد المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ، ثم [ ص: 393 ] أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت الصلاة فصلاها ، ولم يصل بينهما شيئا في رواية : ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا وقد ذكرنا آنفا عن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء ابن مسعود أنه كان يجعل العشاء بين الصلاتين ، ففي هذا جواز بجمع ، وقد سئل الفصل بين الصلاتين مالك المزدلفة : أيبدأ بالصلاة أو يؤخر حتى يحط عن راحلته ؟ فقال : أما الرحل الخفيف فلا بأس أن يبدأ به قبل الصلاة ، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك ، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط عن راحلته ، وقال فيمن أتى أشهب في كتبه : له حط رحله قبل الصلاة ، وحطه له بعد أن يصلي المغرب أحب إلي ما لم يضطر إلى ذلك ، لما بدابته من الثقل ، أو لغير ذلك من العذر ، وأما التنفل بين الصلاتين فقال ابن المنذر : ولا أعلمهم يختلفون أن من السنة ألا يتطوع بينهما الجامع بين الصلاتين ، وفي حديث ابن أسامة : ولم يصل بينهما شيئا .
السابعة عشرة : وأما بالمزدلفة فليس ركنا في الحج عند الجمهور ، واختلفوا المبيت بالمزدلفة ليلة النحر ولم يقف بجمع ، فقال فيما يجب على من لم يبت مالك : من لم يبت بها فعليه دم ، ومن قام بها أكثر ليله فلا شيء عليه ; لأن المبيت بها ليلة النحر سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه ، لا فرض ، ونحوه قول عطاء والزهري وقتادة وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي فيمن لم يبت ، وقال وأبي ثور : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه ، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى الشافعي المزدلفة افتدى ، والفدية شاة ، وقال عكرمة والشعبي والنخعي والحسن البصري : الوقوف بالمزدلفة فرض ، ومن فاته جمع ولم يقف فقد فاته الحج ، ويجعل إحرامه عمرة ، وروي ذلك عن ابن الزبير وهو قول الأوزاعي ، وروي عن الثوري مثل ذلك ، والأصح عنه أن الوقوف بها سنة مؤكدة ، وقال . من فاتته الإفاضة من حماد بن أبي سليمان جمع فقد فاته الحج ، وليتحلل بعمرة ثم ليحج قابلا ، واحتجوا بظاهر الكتاب والسنة ، فأما الكتاب فقول الله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم : جمعا فوقف مع الناس حتى يفيض فقد أدرك ومن لم يدرك ذلك فلا حج له . ذكره من أدرك ابن المنذر ، وروى عن الدارقطني عروة بن مضرس : قال بجمع فقلت له : يا رسول الله ، هل لي من حج ؟ فقال : من صلى معنا [ ص: 394 ] هذه الصلاة ثم وقف معنا حتى نفيض وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه . قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو الشعبي : من لم يقف بجمع جعلها عمرة ، وأجاب من احتج للجمهور بأن قال : أما الآية فلا حجة فيها على الوجوب في الوقوف ولا المبيت ، إذ ليس ذلك مذكورا فيها ، وإنما فيها مجرد الذكر ، وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام ، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج فشهود الموطن أولى بألا يكون كذلك . قال أبو عمر : وكذلك أجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجمع ، وأن من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك ، ممن يقول إن ذلك فرض ، ومن يقول إن ذلك سنة ، وأما حديث عروة بن مضرس فقد جاء في بعض طرقه بيان الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة ، ومثله حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : بعرفة ، وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه رواه شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أخبرنا النسائي إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا قال حدثنا وكيع - عن سفيان - يعني الثوري بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت . . . ، فذكره ، ورواه ابن عيينة عن بكير عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيام منى ثلاثة ؛ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ، وقوله في حديث الحج عروة : ، فذكر الصلاة من صلى صلاتنا هذه بالمزدلفة ، فقد أجمع العلماء أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصل مع الإمام حتى فاتته إن حجه تام ، فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك . قالوا : فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : واذكروه كما هداكم كرر الأمر تأكيدا ، كما تقول : ارم . ارم ، وقيل : الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام ، والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص وقيل : المراد بالثاني تعديد النعمة وأمر بشكرها ، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر [ ص: 395 ] قدر الإنعام فقال : وإن كنتم من قبله لمن الضالين والكاف في " كما " نعت لمصدر محذوف ، و " ما " مصدرية أو كافة والمعنى : اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة ، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه . و " إن " مخففة من الثقيلة ، يدل على ذلك دخول اللام في الخبر ، قاله . سيبويه الفراء : نافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا ، كما قال :
ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليك عقوبة الرحمن
أو بمعنى قد أي قد كنتم ، ثلاثة أقوال والضمير في " قبله " عائد إلى الهدى ، وقيل إلى القرآن ، أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين . وإن شئت على النبي صلى الله عليه وسلم كناية عن غير مذكور ، والأول أظهر والله أعلم .