الثانية : استدل من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها - كقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه الآية - حتى يقوم الدليل على الحظر . وعضدوا هذا بأن قالوا : إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا ، فلا بد لها من منفعة . وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته ، فهي راجعة إلينا . ومنفعتنا إما في نيل لذتها ، أو في اجتنابها لنختبر بذلك ، أو في اعتبارنا بها . ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها ، فلزم أن تكون مباحة . وهذا فاسد ; لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة ، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة ، بل هو الموجب . ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه ، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق ، بل قد يستدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين . ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة ، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر . وتوقف آخرون وقالوا : ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه ، ولا معين قبل ورود الشرع ، فتعين الوقف إلى ورود الشرع . وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة .
وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف . ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال ، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء ، وأن وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه . قال العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره ابن عطية : وحكى عن ابن فورك ابن الصائغ أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، ولا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به ، أو لها حال تستصحب . قال : فينبغي أن يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف .