فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وصل تعالى بذكر الستر ما يتعلق به من أمر النظر ؛ يقال : غض بصره يغضه غضا ؛ قال الشاعر :
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقال عنترة :وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
الثانية : قوله تعالى : من أبصارهم من زائدة ؛ كقوله : فما منكم من أحد عنه حاجزين . وقيل : من للتبعيض ؛ لأن من النظر ما يباح . وقيل : الغض النقصان ؛ [ ص: 206 ] يقال : غض فلان من فلان أي وضع منه ؛ فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص . ف ( من ) صلة للغض ، وليست للتبعيض ولا للزيادة .
الثالثة : وأعمر طرق الحواس إليه ، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته . ووجب التحذير منه ، وغضه واجب عن جميع المحرمات ، وكل ما يخشى الفتنة من أجله ؛ وقد قال : صلى الله عليه وسلم - : البصر هو الباب الأكبر إلى القلب ، يا رسول الله ؟ قال : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر وما حق الطريق . رواه إياكم والجلوس على الطرقات فقالوا : يا رسول الله ، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها . فقال : فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا : أبو سعيد الخدري ، خرجه البخاري ، ومسلم . لعلي : لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية . وروى وقال : صلى الله عليه وسلم - الأوزاعي قال : حدثني هارون بن رئاب أن غزوان ، كانا في بعض مغازيهم ، فكشفت جارية فنظر إليها وأبا موسى الأشعري غزوان ، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت ، فقال : إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك ؛ فلقي أبا موسى فسأله فقال : ظلمت عينك ، فاستغفر الله وتب ، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك . قال الأوزاعي : وكان غزوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات - رضي الله عنه - . وفي صحيح مسلم ، قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجاءة ؛ فأمرني أن أصرف بصري . جرير بن عبد الله وهذا يقوي قول من يقول : إن من للتبعيض ؛ لأن النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف ، إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا ، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا بها ؛ فوجب التبعيض لذلك ، ولم يقل ذلك في الفرج ؛ لأنها تملك . ولقد كره عن الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته ؛ وزمانه خير من زماننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها .
الرابعة : قوله تعالى : ويحفظوا فروجهم أي يستروها عن أن يراها من لا يحل .
[ ص: 207 ] وقيل : ويحفظوا فروجهم أي عن الزنا ؛ وعلى هذا القول لو قال : ( من فروجهم ) لجاز . والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام . عن أبيه ، عن جده قال : قلت يا رسول الله ، بهز بن حكيم بن معاوية القشيري ، قال : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك . قال : الرجل يكون مع الرجل ؟ قال : إن استطعت ألا يراها فافعل . قلت : فالرجل يكون خاليا ؟ فقال : الله أحق أن يستحيا منه من الناس عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ . وقد وروى ذكرت عائشة - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحالها معه فقالت : ما رأيت ذلك منه ، ولا رأى ذلك مني .
الخامسة : بهذه الآية حرم العلماء نصا . وقد روي عن دخول الحمام بغير مئزر ابن عمر أنه قال : أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة . وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو محرم بالجحفة . فدخوله جائز للرجال بالمآزر ، وكذلك النساء للضرورة كغسلهن من الحيض ، أو النفاس ، أو مرض يلحقهن ؛ والأولى بهن والأفضل لهن غسلهن إن أمكن ذلك في بيوتهن ، فقد روى أحمد بن منيع ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان ، سهل بن معاذ ، عن أبيه ، عن أنه سمعها تقول : لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرجت من الحمام فقال : من أين يا أم الدرداء ؟ فقالت من الحمام ؛ فقال : والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن - عز وجل - أم الدرداء . وخرج عن عن أبو بكر البزار ، طاوس ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : . قال احذروا بيتا يقال له الحمام . قالوا : يا رسول الله ، ينقي الوسخ ؟ قال : فاستتروا أبو محمد عبد الحق : هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب ؛ على أن الناس [ ص: 208 ] يرسلونه عن طاوس ، وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة فلا يصح منه شيء لضعف الأسانيد ، وكذلك ما خرجه الترمذي .
قلت : أما فحرام على أهل الفضل والدين ؛ لغلبة الجهل على الناس واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رمي مآزرهم ، حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائما منتصبا وسط الحمام وخارجه باديا عن عورته ضاما بين فخذيه ولا أحد يغير عليه . هذا أمر بين الرجال فكيف من النساء ! لا سيما بالديار دخول الحمام في هذه الأزمان المصرية إذ حماماتهم خالية عن المظاهر التي هي من أعين الناس سواتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
السادسة : قال العلماء : فإن استتر فليدخل بعشرة شروط :
الأول : ألا يدخل إلا بنية التداوي أو بنية التطهير عن الرحضاء .
الثاني : أن يعتمد أوقات الخلوة أو قلة الناس .
الثالث : أن يستر عورته بإزار صفيق .
الرابع : أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور .
الخامس : أن يغير ما يرى من منكر برفق ، يقول : استتر سترك الله ! .
السادس : إن دلكه أحد لا يمكنه من عورته ، من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته .
وقد اختلف في . الفخذين هل هما عورة أم لا ؟
السابع : أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس .
الثامن : أن يصب الماء على قدر الحاجة .
التاسع : إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه .
العاشر : أن يتذكر به جهنم . فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غض البصر .
ذكر في نوادر الأصول من حديث الترمذي أبو عبد الله طاوس ، عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عبد الله بن عباس . وخرج من حديث اتقوا بيتا يقال له الحمام . قيل : يا رسول الله ، إنه يذهب به الوسخ ويذكر النار فقال : إن كنتم لا بد فاعلين فادخلوه مستترين قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبي هريرة . قال نعم البيت يدخله الرجل المسلم بيت الحمام - وذلك لأنه إذا دخله سأل الله الجنة واستعاذ به من النار - وبئس البيت يدخله الرجل بيت العروس . وذلك لأنه يرغبه [ ص: 209 ] في الدنيا وينسيه الآخرة أبو عبد الله : فهذا لأهل الغفلة ، صير الله هذه الدنيا بما فيها سببا للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم ؛ فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم ، فلا بيت حمام يزعجه ولا بيت عروس يستفزه ، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة ، حتى أن جميع نعيم الدنيا في أعينهم كنثارة الطعام من مائدة عظيمة ، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كتفلة عوقب بها مجرم أو مسيء قد كان استوجب القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا .
السابعة : قوله تعالى : ذلك أزكى لهم أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين وأبعد من دنس الأنام . إن الله خبير أي عالم . بما يصنعون تهديد ووعيد .