فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان الإنسان هنا آدم - عليه الصلاة والسلام - ؛ قاله قتادة ، وغيره ، لأنه استل من الطين . ويجيء الضمير في قوله : ثم جعلناه عائدا على ابن آدم ، وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر ؛ فإن المعنى لا يصلح إلا له . نظير ذلك [ ص: 102 ] حتى توارت بالحجاب وقيل : المراد بالسلالة ابن آدم ؛ قاله ابن عباس ، وغيره . والسلالة على هذا صفوة الماء ، يعني المني . والسلالة فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء ؛ يقال : سللت الشعر من العجين ، والسيف من الغمد فانسل ؛ ومنه قوله [ لامرئ القيس ] :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
فالنطفة سلالة ، والولد سليل وسلالة ؛ عنى به الماء يسل من الظهر سلا . قال الشاعر [ حسان بن ثابت ] :فجاءت به عضب الأديم غضنفرا سلالة فرج كان غير حصين
وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تجللها بغل
قلت : أي من طين خالص ؛ فأما ولده فهو من طين ومني ، حسبما بيناه في أول سورة الأنعام . وقال الكلبي : السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك ؛ فالذي يخرج هو السلالة .
الثانية : قوله تعالى : ( نطفة ) قد مضى القول في النطفة والعلقة والمضغة وما في ذلك من الأحكام في أول الحج ، والحمد لله على ذلك .
الثالثة : ثم أنشأناه خلقا آخر اختلف الناس في الخلق الآخر ؛ فقال قوله تعالى : ابن عباس ، والشعبي ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن زيد : هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا . وعن ابن عباس : خروج إلى الدنيا . وقال قتادة عن فرقة : نبات شعره . الضحاك : خروج الأسنان ونبات الشعر . مجاهد : كمال شبابه ؛ وروي عن ابن عمر : والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق ، والإدراك ، وحسن المحاولة ، وتحصيل المعقولات إلى أن يموت .
الرابعة : فتبارك الله أحسن الخالقين يروى قوله تعالى : عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله : خلقا آخر قال فتبارك الله أحسن الخالقين ؛ فقال [ ص: 103 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هكذا أنزلت أن . وفي مسند الطيالسي : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين الآية ؛ فلما نزلت قلت أنا : تبارك الله أحسن الخالقين ؛ فنزلت فتبارك الله أحسن الخالقين . ويروى أن قائل ذلك ونزلت معاذ بن جبل . وروي أن قائل ذلك عبد الله بن أبي سرح ، وبهذا السبب ارتد وقال : آتي بمثل ما يأتي محمد ؛ وفيه نزل ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله على ما تقدم بيانه في ( الأنعام ) . وقوله تعالى : فتبارك تفاعل من البركة . أحسن الخالقين أتقن الصانعين . يقال لمن صنع شيئا خلقه ؛ ومنه قول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] :
ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
[ الخامسة ] : من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا : الله أعلم ؛ فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى خلق السماوات سبعا والأرضين سبعا ، وخلق ابن آدم من سبع ، وجعل رزقه في سبع ، فأراها في ليلة سبع وعشرين . فقال عمر - رضي الله عنه - : أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه . وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبي شيبة . فأراد ابن عباس خلق ابن آدم من سبع بهذه الآية ، وبقوله : وجعل رزقه في سبع قوله : فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا الآية .
[ ص: 104 ] السبع منها لابن آدم ، والأب للأنعام . والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء ؛ هذا قول . وقيل : القضب البقول لأنها تقضب ؛ فهي رزق ابن آدم . وقيل : القضب والأب للأنعام ، والست الباقية لابن آدم ، والسابعة هي للأنعام ؛ إذ هي من أعظم رزق ابن آدم .